ربما لا أكون مبالِغا إن قلتُ إن المهمة الأخطر والأهم لثورة 25 يناير العظيمة لم تُنجز بعد. فبالرغم من أن الثورة نجحت، حتي كتابة هذه السطور، في أن تسقط نظاما مستبدا »عتيدا وطاغية عنيدا« في وقت قياسي وتضعه وراء القضبان مع كبار مساعديه من القتلة ولصوص الأوطان، إلا أنها تبدو عاجزة عن تغيير الناس وسلوكياتهم ونمط تفكيرهم وذلك هو الجهاد الأكبر أو المعركة الأصعب أو إن شئت فقل الثورة الثانية التي يتعين علينا إنجازها.. وأعتقد أن التحدي الأخطر الذي يواجه مصر الآن يكمن في عنصرين هما النظام البيروقراطي المتعفن، وأمراض النخبة المزمنة.. فلا تزال الأدوات والآليات التي تعتمد عليها وتستخدمها حكومة الثورة برئاسة الدكتور عصام شرف هي نفس أدوات وآليات ما قبل الثورة.. وهناك صور صارخة وفجة لهذا التناقض تبدو واضحة للعيان في التغييرات الاخيرة في الوزراء والمحافظين والقيادات الصحفية والإعلامية وهي تطرح سؤالا جوهريا يطل من كل الرؤوس باحثا عن إجابة شافية ومقنعة هو »من المسؤول عن هذه الاختيارات«؟.. يبدو لي الدكتور شرف الآن كسباح ماهر ألقي به في بحر هائج مليء بأسماك القرش المفترسة بعد تقييد يديه.. وهناك العديد من الشواهد أو بالاحري المآخذ التي لا يمكن فهمها أو قبولها مثل إعادة تعيين وزير ارتبط بالسيدة الاولي السابقة وتورط حتي آخر لحظة في الدفاع عن الرئيس المخلوع وتسفيه الثوار.. أو إسناد مهمة إدارة الحوار الوطني الي شخص يتجاوز عمره الثمانين عاما ثم بعد فشله في ذلك تسند المهمة الي شخص آخر يتجاوز الثمانين أيضا.. ومع الاحترام الواجب لكبار السن والقامة فإن هذا النمط من التفكير الابوي المحنط يجب أن ينتهي الي الابد في مصر الثورة التي صنعها شباب أغلبهم في العشرينات من العمر وكان يجب أن يتواجدوا ليس فقط في الحوار وإنما في الحكومة أيضا.. وأنا لا اطالب في هذه المرحلة الحرجة بتعيين وزراء او محافظين في العشرينات أو حتي الثلاثينات (وإن كان ذلك سيكون مطلوبا في المستقبل القريب بعد أن نؤهل الشباب ونعدهم لذلك) ولكن كان يجب علي الاقل اختيار وزراء ومحافظين أكثر شبابا من القريبين في العمر والفكر من شباب التحرير وممن كانوا مع الثوار في الميدان وكانوا يحملون ارواحهم علي أكفهم من أجل إنجاح الثورة.. وربما يقول قائل إن الدكتور عصام شرف يقود المعركة وحيدا في غابة بيروقراطية نظام مبارك المزروعة بعملاء أمن الدولة المنحل.. ولكن ذلك لن يُعفي رئيس الوزراء من مسئولية سوء الاختيار الذي تجلي في تعيين ثلاثة رؤساء جامعات سابقين ليس فقط من كبار السن ولكن أيضا من كبار المسئولين في عهد مبارك الذي لم يفلت فيه رئيس جامعة او مسئول كبير، إلا نادرا، من شبهات الفساد والإفساد أو التعاون مع أمن الدولة علي حساب استقلال الجامعات.. أيضا كنا ننتظر بعد ثورة 25 يناير أن نتوقف عن خطأ، بل خطيئة، اعتبار منصب المحافظ، وهو المنصب الاخطر بعد رئاسة الدولة، نوعا من مكافأة التقاعد لبعض ضباط الشرطة والجيش من المرضي عنهم.. فلم يضيعنا سوي تفضيل أهل الثقة والحظوة علي أهل العلم والخبرة.. وعندما كنتُ أناقش هذه الاختيارات السيئة مع بعض الاصدقاء قال أحدهم إنه ربما تكون بعض الشخصيات قد فُرضت فرضا علي الدكتور عصام شرف أو انه قد يكون استشعر بعض الحرج في تغيير شخصيات عسكرية خدمت في نظام مبارك ولم تنجز شيئا يذكر يبرر استمرارها في حكومة الثورة.. وأجبت الصديق علي ذلك بالقول إن التفويض الشعبي الممنوح للدكتور عصام شرف ليس علي بياض وإن واجبه أن يعود الي ميدان التحرير ويقدم استقالته إذا عجز عن تحقيق اهداف الثورة أو الاستعانة بقوي الثورة إذا شعر بأنه محاصر ومغلول اليد.. أما مواصلة سياسة استبدال المومياوات التي كان يجيدها حسني مبارك لكي يبدو الأكثر شبابا، فذلك مرفوض تماما في مصر الثورة.. أما عن التحدي الآخر الذي يواجه الثورة، وأعني به أمراض النخبة المزمنة، فيتجلي في إصرار النخبة من المثقفين والسياسيين والتكنوقراط علي الاكتفاء بمواصلة التحدث الي بعضهم في الابراج العاجية وداخل صالونات القاهرة المكيفة وبرامج »التوك شو« دون النزول الي الشارع الذي تُرك ملعبا ممهدا ومكشوفا للتيارات الدينية المتطرفة والموغلة في تخلفها وخاصة في مدن الأقاليم وقراها وريفها.. ومن أسف أن بعض، إن لم يكن معظم شباب الثوار، اصيبوا سريعا بعدوي أمراض أهل النخبة فزاحموهم في الفضائيات وبدأوا التنظير والفتوي بغير علم أو تجربة، وكثيرا ما تطاول أو تجاوز أحدهم في الحوار مع من يختلفون معهم من كبار السن ناسين أننا في مجتمع أبوي محافظ لا يزال ينظر الي من هم في سن الخامسة والخمسين علي أنهم جيل الشباب الذي لا بد أن يأخذ فرصته يوما ما !!.. والغريب أن معظم برامج التوك شو وضيوفها من الثوار الحقيقيين أو الانتهازيين الذين ركبوا الموجة وحشروا أنفسهم في الصفوف الامامية في كل الصور، لم يبذلوا أي محاولة أو جهد مخلص للنزول الي الناس في الاقاليم والعشوائيات لتعريفهم بأهداف الثورة.. لم يفعلوا ذلك لا علي الهواء ولا علي الارض وتركوا البسطاء والفقراء صيدا سهلا للثورة المضادة.. وكانت النتيجة للاسف الشديد هي أن »مصر بتتغير.. واحنا لأ«.. مع الاعتذار للشعارات الوطنية الجميلة التي تقدمها قناة »اون تي في«.. أو ، كما كتبت في مقال سابق، أن »الثورة لم تغادر ميدان التحرير«..