في الوقت الذي يتخرج فيه الآلاف سنويا من مدارس ومعاهد وكليات التمريض، تعاني أغلب مستشفيات مصر من عجز شديد في مهنة التمريض.. ويعتقد البعض أن هناك عزوفا عن المهنة تسبب في حدوث ذلك العجز .. ومع ذلك نجد تزايداً في أعداد المقبلين علي دراسة التمريض حتي أن كليات التمريض أصبحت من الكليات الرئيسية في العديد من الجامعات الخاصة وبمصروفات ضخمة!.. ويبقي اللغز كما هو .. »الأخبار» تحاول فك اللغز وتفتح ملف التمريض وتناقش مشاكله مع كافة الأطراف. شكاوي مديري المستشفيات تتزايد من عجز التمريض حيث لم يخل أي لقاء من لقاءاتنا مع قيادات المستشفيات الحكومية في كل التحقيقات الصحفية التي نناقش فيها سوء الخدمات الصحية إلا ونفاجأ بالمديرين يرجعون أغلب المشكلات الموجودة بالمستشفيات لعجز التمريض ، حتي أن العديد من الأقسام وغرف الرعاية المركزة ، وحضانات الأطفال مغلقة لهذا السبب ، وهي من أكثرالأقسام احتياجا في كافة المستشفيات ، فلم تعد المشكلة في عدم توافر الأسرة والأجهزة بل في نقص عدد العاملين بهيئة التمريض. يقول د. شريف أمين مدير عام مستشفيات قصر العيني: »إن هناك أكثر من 30 % من قوة قصر العيني معطلة بسبب عجز التمريض ، بالإضافة إلي أن ثلث أسرة العناية المركزة أيضا غير مستغلة بسبب عدم وجود طاقم تمريض مؤهل ، وهو أمر كارثي تظهر عواقبه شيئا فشيئا حيث إن هذه الأقسام من أكثر الأقسام إقبالا في قصر العيني ، بالإضافة إلي أن طاقم التمريض الفعلي الموجود لدينا مضغوط جدا بسبب العجز الموجود وزيادة أعداد المرضي.لذلك دائما ما تشكو الممرضات من الجهد الإضافي الذي يقمن به مقارنة برواتبهن المتدنية، وأضاف مدير مستشفيات قصر العيني ان العجز الفعلي الموجود لديه في التمريض يصل نحو 1400 ممرضة حتي يعمل القصر بكامل قدراته ويقدم خدمة افضل للمريض خاصة أن زيادة عدد الأسرة يكاد يكون من الأمور المستحيلة في حالة عدم وجود هيئة تمريض متكاملة. رعاية المبتسرين وتضيف د. إيمان خالد نائب مدير مستشفي أبو الريش »أن أزمة التمريض تسببت في أزمات كثيرة ومتتالية خلال الفترة الماضية ، وذلك لأن الأماكن الحرجة في كل مستشفي هي الأكثر خطورة واحتياجا لكوادر التمريض المتخصصة ، كما تحتاج لأن تكون الممرضة بكامل طاقتها وتركيزها ، كي يأخذ كل مريض حقه الكامل في الرعاية ، فبالنسبة للحضانات مثلا التي تقع مسئوليتها علي عاتقي ، فإنه لدينا عجز في ممرضيها ورعاية المبتسرين أحد أصعب انواع الرعايات وتحتاج لملاحظة دقيقة لحظة بلحظة ، بحيث تختص كل ممرضة برعاية طفل واحد أو طفلين في حالة استقرار الحالة ، أما مايحدث الآن فهو أن الممرضة تضطر لملاحظة نحو 8 أطفال في وقت الأمر الذي قد يتجاوز طاقتها. كوادر متخصصة ويؤكد د.علي محروس مدير قطاع التأمين الصحي بالمنوفية »ان الأزمة ليست في الأعداد إنما الأزمة الحقيقية هي أزمة كوادر متخصصة وخاصة في الأقسام الحرجة مثل رعاية القلب والرعايات المركزة والغسيل الكلوي والحضانات والطوارئ والعمليات ، موضحا ان هذه الكوادر المتخصصة أعدادهم قليلة جدا وتسرب اغلبهم إلي المستشفيات الخاصة بسبب ضعف الرواتب ، وأغلب الموجود حاليا مصنف موظفا وليس ممرضا ، وأضاف محروس » ان الأزمة في مستشفيات الأقاليم لا تقل حدة عن مستشفيات القاهرة حيث تعاني اغلب مستشفيات الأقاليم من عجز في التمريض خاصة ان مستشفيات التأمين الصحي تعالج اكبر قطاع من الدولة ، فحتي الآن مازالت حساسية مهنة التمريض للفتاة في الصعيد والفلاحين موجودة مع كل هذا التطور الذي نشهده ، ومازال الكثير من الفتيات يعانين من نظرة المجتمع لديهن ، وربما تبدو الأزمة اكثر وضوحا في مستشفيات القاهرة ، حيث الأعداد الأكبر من المرضي ، وزحام الطوارئ والعيادات الخارجية ، والاحتياج الدائم للحضانات والرعايات المركزة. معاناة الممرضات أما عن حال الممرضات أنفسهن في المستشفيات الحكومية والجامعية فهو الأكثر معاناة ، فأثناء جولتنا بالمستشفيات وجدنا كلا منهن منهمكة في عملها إما أنها تائهة في زحام قسم الطوارئ وسط مئات المرضي ،أو تهرول يمينا ويسارا في ضجيج العيادات الخارجية ، أو تباشر رعاية كاملة بمفردها وهو الأمر المعتاد لديهن حيث تقول فاطمة سعيد إحدي ممرضات قصر العيني » تعبت من كثرة الشكوي مما نراه ، ولا أحد يتخيل صعوبة مانعيشه يوميا مقابل 1200 جنيه هي راتبي الشهري وأنفق منه علي ثلاثة ابناء في مختلف المراحل التعليمية ، اظل طوال اليوم واقفة علي قدمي، ثم اعود مسرعة للمنزل لأقوم بواجبي نحو اسرتي. وفي نهاية الأمر يأتي أحد أهالي المرضي منفعلا يظنني مقصرة في حق قريبه ويسبني وسط الجميع بألفاظ بذيئة ولا أستطيع الرد عليه وليس هناك من يدافع عني، وهذا أبسط مانتعرض له في اقسام الطوارئ. وتضيف نعمة منتصر ممرضة بمستشفي أبو الريش »أغلبنا غير مستقرين أسريا بسبب ضغوط المهنة وأعبائها التي لا تنتهي ، خاصة أننا مضطرون للسهر في ورديات ليلية خاصة بالأقسام الحرجة التي لا يمكن ان يترك مريضها لحظة ، وبالطبع أغلب ازواجنا لا يرضون عن ذلك ، ونحن مضطرون للعمل لضيق العيش ولا بديل لدينا ، وقد يصل الأمر في النهاية للطلاق وهو ماحدث معي وأصبحت الآن مطلقة أحمل عبء 4 أطفال ، وليس لديّ من يعينني علي تربيتهم ، وفي كل مرة اغيب فيها عن منزلي اعود لأجد كارثة بسبب تواجد الأولاد بمفردهم في المنزل ، وليت العائد يكون مجديا بل انني اكمل بقية الشهر بالاقتراض. عدم التقدير وتلخص هند محفوظ ممرضة في مستشفي المنيرة مشكلات الممرضات في تدني الأجور وسوء حالة الوجبات والعمل لساعات طويلة جدا تجعلهم يفقدون كامل طاقتهم في العمل ، ولديهن حياة اسرية واجتماعية تحتاج لمزيد من الطاقة والوقت والجهد ايضا، بالإضافة لعدم وجود بيئة مناسبة للعمل في مجال التمريض موضحة بالرغم من الجهد الذي نبذله في العمل إلا اننا لا نشعر بتقدير مادي او حتي معنوي، بل دائما مانشعر أننا خارج نطاق اهتمام الدولة، مما يدفع الكثيرين منا للعمل في المستشفيات الخاصة عندما تتاح الفرصة». اما ماجدة منتصر ممرضة بمستشفي ام المصريين» فتحكي مأساتها مع المهنة بحرقة شديدة جعلتها تتحدث بانفعال قائلة » من يرضيه حالنا هذا.. نتعرض لكافة الإهانات يوميا ونواجه هذا بمفردنا ، وليس هناك من يحمينا من ذلك ، ونعمل فوق طاقتنا وكل منا تتحمل اضعاف ما يفترض ان تتحمله من أعداد المرضي ، وكل مستحاقتنا في الدولة هو 15 جنيها بدل الوردية ، مقابل 400 جنيه بدل الوردية في المستشفيات الخاصة، وذلك في الوقت الذي أباشر فيه 40 مريضا ، بينما لا يزيد عدد المرضي في وردية ممرضة المستشفي الخاص عن 8 أفراد ، مضيفة »من يرضيه ان يكون بدل العدوي الذي نتقاضاه هو 17جنيها شهريا في مهنة نتعرض فيها مباشرة للمرض». معاملة سيئة أما أعضاء هيئة التدريس بكلية التمريض فكان لبعضهم رأي آخر في اسباب عجز التمريض حيث تقول إيمان كامل معيد بكلية التمريض جامعة القاهرة » احزن جدا عندما اري المعاملة السيئة التي تتعرض لها الممرضات والتي قد تصل إلي حد الإهانة في احيان كثيرة في المستشفيات الحكومية والجامعية ، فلقد عشت تجربة العمل في المستشفي الحكومي وعاصرت التجربة بنفسي ، وكثيرا ما كنت ارغب في تصحيح فهم الكثيرين عن التمريض وأنه مهنة سامية تقدرها كل دول العالم وتعتبر من أكثر المهن ارتفاعا في الأجور ، موضحة أننا نعاني من الاستهانة بالمهنة وعدم تقديرها واعتبارها الطبقة الأقل قدرا في المنظومة الصحية ، مع العلم انني رفضت دخول كلية الصيدلة واخترت بمطلق رغبتي دراسة التمريض ، وتري إيمان ان الاستهانة بالمهنة وعدم تقدير الممرضة هو احد الأسباب القوية في عدم رغبة الكثيرين في العمل بالتمريض. عاملات نظافة !! وتقترح هدير ممدوح مدرس مساعد بكلية التمريض ان نقوم بتغيير لقب ممرضة ونجعله مساعد طبيب ، كي نستطيع تغيير التفكير العقيم المستوطن في عقول الكثيرين ممن يعتقدون ان الممرضة هي الفئة الأقل ، حيث يشعرني البعض أحيانا أننا عاملات نظافة ولذلك فمنعا للدخول في صدامات لا فائدة منها اكتفيت بالتدريس في الجامعة واعتزلت العمل الحكومي تماما، مضيفة انه كان هناك مقترح خلال الفترة الماضية بتغيير اسم كلية التمريض وجعله » كلية الطب الإداري » وذلك لرفع شأن التمريض وأنا ادعم هذا المقترح جدا وأشعر انه من الممكن أن يساعد في تغيير ثقافة البعض ونظرته الخاطئة للممرضة. أفضل تمريض وأكد د. محمد فوزي أستاذ التمريض جامعة القاهرة أن » التمريض في مصر هو أفضل تمريض علي مستوي العالم بشهادة الجميع، ولذلك فأغلب الدول تستعين بالتمريض المصري وتطلبه حتي ان كندا دائما ماتتردد علي الجامعة للتعاقد علي دفعات بأكملها ، كما ان التدريس في جامعة القاهرة مكثف جدا ولا يقل صعوبة عن الدراسة في كلية الطب ، وطلابه هم الطلاب المتفوقون في الثانوية العامة والذين حال دون دخولهم كليات الطب درجات معدودة ، او التحقوا بالتمريض حبا فيه ، ولكن الصدمة تكون حين يتخرج الطالب بعد معاناة الدراسة 5 سنوات درس فيها كل فنون التمريض وينزل للعمل في المستشفيات الحكومية ويفاجأ بالمعاملة من قبل المرضي والأهالي وحتي الأطباء أنفسهم ، مع انه هو الأكثر جهدا في المنظومة ككل بعدما ينتهي دور الطبيب فور إجراء العملية ، بالإضافة لعدم التقدير المادي وتقاضي رواتب تكاد تكون معدومة ، ولا بديل لديه عن ذلك وليس هناك ما يتبقي لديه من الوقت في يومه لعمل آخر ، فإن كنا سنتحدث عن قلة رواتب الأطباء مثلا فربما يكون لأغلبهم مصدر دخل اخر وهو العيادات الخاصة ، اما التمريض فيقضي يومه بأكمله في المستشفي وفي هذه الحالة لا يكون لديه سوي أحد الحلين إما الهروب للمستشفيات الخاصة او الهجرة للعمل في الخارج. عالم آخر واصلنا جولتنا في المستشفيات الخاصة فوجدنا هناك عالما آخر يختلف عن ما رأيناه في التمريض الحكومي ومعاناته، فراتب ممرض القطاع الخاص قد يصل 9 آلاف جنيه في بعض المستشفيات الخاصة ، في حين أن الجهد يعتبر محدودا جدا مقارنة بجهد التمريض الحكومي ، بالإضافة لتنظيم الشيفتات مما لا يمثل إرهاقا للتمريض ويسمح له بأداء عمله خلال الساعات المحددة بأعلي كفاءة ، أما وجباتهم الغذائية فتكون فندقية من افضل انواع الأطعمة ، وهو ما أكدته رنا حسن إحدي ممرضات المستشفيات الخاصة قائلة » بعد ان انهيت دراستي بجامعة القاهرة وحصلت علي دبلوم الدراسات العليا في التمريض عملت فترة بأحد المستشفيات الحكومية فأصبت بصدمة نفسية لما رأيته ولم احتمل ذلك مطلقا فأخذت اجازة من القطاع الحكومي واعتزلت العمل فترة حتي أعدت حساباتي من جديد واستعدت حبي للمهنة وخرجت للعمل في أحد المستشفيات الخاصة وكان الفارق شاسعا في كل شئ ، وتلقيت عرضا للعمل في إنجلترا ولكني رفضت لظروف أسرية ». الهجرة للخارج اتجهنا بعد ذلك إلي إحدي الجامعات الخاصة وبالتحديد الجامعة البريطانية للتعرف علي سر اتجاه الشباب لتحمل مصاريف باهظة لدراسة التمريض ورؤيتهم للمستقبل.واكتشفنا من خلال حديثنا مع بعض الطلاب عشقهم للمهنة. لكن المحزن ان معظمهم لايفكر مطلقا في العمل بالقطاع الحكومي وإنما يخطط للعمل بالقطاع الخاص أو الهجرة للخارج. تقول أميرة سلام » التحقت بالتمريض لحبي لهذه المهنة الرحيمة ، التي تكمل دور الطب ، ولم افكر في الطب لعدم قدرتي علي تحمل التشريح ، ولم افكر حتي الآن ان كنت سأعمل في مصر ام سأكمل مسيرتي في الخارج ولكن الأمر المحسوم هو ان عملي سيكون بعيدا عن القطاع الحكومي ، وهذا ليس فكرنا بمفردنا كطلاب جامعة خاصة ، بل ان زملائي في تمريض القاهرة يفكرون بنفس الطريقة لما رأوه من تجاوزات في حق التمريض الحكومي. إقبال متزايد كما اكدت د. صفاء هاشم عميد كلية التمريض بالجامعة البريطانية أن الإقبال علي دراسة التمريض ازداد خلال السنتين الماضيتين إلي الضعف او اكثر تقريبا علي عكس مايعتقده البعض ، وقالت ان العجز الذي تعانيه المستشفيات الحكومية في التمريض سيستمر مادامت المنظومة تسير بنفس النهج الذي لا يتغير ، وطالبت بخطة عاجلة لعلاج المشكلة تشمل وضع حد ادني مرضٍ لأجر الممرض بحيث لا يقل راتب تمريض البكالوريوس عن 5 آلاف جنيه ، وتقليل عدد ساعات العمل للحصول علي اعلي مستوي من العطاء ، مشددة علي ضرورة الاهتمام اكثر بالمعاهد والمدارس لرفع مستوي كفاء الخريجين. ليست أزمة !! وبعد ان انتهينا من جولاتنا التقينا د. كوثر محمود نقيب التمريض التي اكدت ان اهم مشكلات التمريض هو ضعف الرواتب موضحة ان النقابة خاطبت وزارة المالية في هذا الشأن اكثر من مرة لكنها لم تلق اهتماما، وطالبت بضرورة اهتمام الدولة بالتمريض لأنه من اكثر المهن التي تقدرها كل دول العالم ، وقالت إن لدينا عدوين اساسيين للمهنة هما »التسرب والهجرة» ولمواجهتهما لابد من وضع خطة لرفع أجر الممرضة بحيث لا يقل عن 5000 جنيه. سوء توزيع أما عن العزوف عن المهنة اكدت نقيب التمريض ان هذا غير صحيح بالمرة فالإقبال في تزايد مستمر حيث ان المعهد الذي يحتاج ل 200 طالب يتقدم له 2000 طالب ، ولدينا 11 ألف خريج كل عام يتواجد منهم 10% في قوة العمل ولكننا نحتاج إلي 15 ألف خريج لمدة عامين كي نغطي الاحتياج، كما ان لدينا 182 ألف ممرضة علي قوة العمل اي ان العجز ليس فادحا كما يدعي البعض ، ولكننا نعاني من سوء توزيع خاصة في العيادات الخارجية ورفضت النقيبة مقترح تغيير مسمي كلية التمريض او لقب ممرض وقالت ان الممرض ليس مساعدا لأحد والتمريض شرف لنا ونحن عضو أساسي في الفريق الطبي ولكن النظرة الاجتماعية التي يتحدث عنها البعض مسئولية الإعلام الذي قد يظهر الممرضة بشكل لايليق، وأكدت ان النقابة تعمل علي رفع مستوي التمريض حيث قامت بتدريب نحو 40 ألف ممرض وممرضة بالاتفاق مع وزارة الصحة ، كما قامت بفتح 182 فصلا للتمريض في الوجه القبلي والبحري بالاتفاق مع التعليم العالي وزاد العدد لثلاثة اضعاف تقريبا..كما تعمل النقابة ايضا علي رفع شأن التمريض معنويا من خلال عمل نواد خاصة بهم وسوف يتم افتتاح اول ناد للتمريض في بورسعيد خلال سنتين ، كما سيتم عمل اول مصيف خاص بالتمريض في مرسي مطروح خلال عام 2018.