نستكمل في هذا المقال حديثنا الممتد عن فجوة الإدارة في واقعنا الثقافي والتعليمي والإداري والجامعي، فهذه الفجوة لابد من عبورها واستنهاض طاقات كثيرة مهدرة بسببها. إن من أهم متطلبات تحقيق هذا الاستنهاض هو أن نعرف كيف نحب جميعا هذا الوطن ومن به وأن نسعي في نفس الوقت للتركيز علي استيعاب ونشر المهارات والأدوات المفتقدة.. فالشخصية المتسلطة التي تمارس السيطرة السلبية بأشكالها المختلفة سواء كانت في مؤسسة أو مدرسة أو جامعة هي من أهم مسببات واستفحال تلك الفجوة الإدارية.. فهذه الشخصية تتسم بسمات أدت بالفعل إلي انهيار وتآكل وتفريغ المؤسسة أو المدرسة أو الوزارة أو الجامعة من قدراتها وهذه السمات تتمثل في: 1- أحادية منقطعة النظير في الرؤية والنظرة الضيقة لمواقع أقدامها فقط. 2 تتسم بقدر وبحالة عالية من النرجسية والكبر والاستخفاف التي تولد بدورها حالة من العنف لدي صاحبها فهي شخصية عنيفة تبادر بإلحاق الأذي والضرر غير المدروس والمندفع عادة، فهي تسيئ استخدام سلطة العقاب حتي يفقد معناه وتخلق حالة من إحباط الدافعية واللامبالاة في نهاية الأمر لدي من يعملون مع هذه الشخصية DEMOTIVATION، 3 انها شخصية لا تؤمن بالإدارة بالمشاركة، فلقد وجدت في دراسة تطبيقية أجريتها انه من الخمسة عشر عنصرا في العملية الإدارية مثل »التخطيط« والإرشاد والتدريب وزرع المناخ الايجابي في بيئة العمل وما يتطلبه ذلك من أمور لدعم الانتماء وروح المبادرة، إلي آخره من عناصر، نجد هذه الشخصية تركز فقط علي ثلاثة عناصر وهي الرقابة والسيطرة والتقييم الشكلي بما يشبه المسرحية الهزلية، في حين ان الإدارة الفعالة تتطلب تناول كل عناصر العملية الإدارية كلها وبالتساوي من ناحية الوقت والجهد والمهام. لكن المضحك أن هذه الشخصية تدير »طواحين هواء« بهدف الايحاء للقيادات الأعلي منها أن »تضرب بيد من حديد«!!.. وهذا يستلزم »بالضرورة« خلط الأمور وتأطير الجميع بأنهم فوضويون غير ملتزمين وينبغي أن تخرجهم من جحورهم.. فلا ينفع مع هؤلاء ومع هذه »الثقافة إلا من نذر نفسه للعقاب ثم العقاب، ثم السيطرة السلبية بأشكالها، ومع وجود حالات مؤسفة ممن فقدوا التزامهم وانضباطهم لأسباب عديدة، نجد هذه الشخصية تسعي لإظهار هذا الجانب فقط.. ليس لتبرير وجود نوعيتها المتسلطة بل لأنها لا تتقن إلا هذا النوع من السيطرة السلبية »السهلة« وإذا لاحظنا ازدياد هذه النوعية في واقعنا الثقافي العربي كله، فهذا يعود لعدة عوامل ولكن من أهمها سهولة ممارسة السيطرة السلبية، وفقدان القدرة والمهارات اللازمة والحالة النفسية الايجابية والنفس المطمئنة وإدارة معادلات إدارية ذات طبيعة استراتيجية وعلمية لإدارة الفرق والمجموعات.. لقد رصدت ما سبق ذكره اعلاه من خلال الكثير من التفاعلات الإدارية ومن خلال التأكد من حدوثها في عشرة فصول تدريب شاركت فيها مجموعات من المديرين بالإضافة إلي حالات بعينها حيث يروي أحد المعنيين انه وعلي مدي عدة سنوات مع أحد ممثلي هذه الشخصية في واقعنا، يؤكد ان التفاعلات سنة بعد سنة قد ركزت فقط وفعلا علي عناصر الرقابة والتقييم ومتابعة الحضور والانصراف فقط، مما أكد علي مقولة عالمنا الكبير فاروق الباز من انه يتعجب لجملة »أنا أذهب يوميا للدوام« وليس للعمل مطالبا بأن تلغي بعض الدول العربية كلمة »الدوام« التي تحولت إلي واقع في كل الدول العربية حيث تتم »المداومة« وليس العمل المنجز الحقيقي الذي ينهض بالمؤسسات والجامعات والبلاد. ويستغرق أحد الشهود في رصد أمثلة طريفة.. للممارسات اليومية للشخصية المتسلطة، فيذكر انه وعند توجيه مذكرة أو مكاتبة لها تتضمن مقترحات أو مبادرات من شأنها لفت الانتباه الموضوعي والمهذب للاحتياجات الحقيقية لإدارة فعالة.. هنا يراها الجميع متهيجة الأحاسيس ترفض الانصياع للحقائق فتقرأ النص بصورة غاضبة وملتوية لتصف ما جاء به علي انه »وهم« وأن من قدمه واهم »بالطبع« وليس مشكورا.. فتنقض علي النص بأسلوب يعكس انها الممتلكة للحقيقة.. إلا ان استمرار النقاش مع هذه الشخصية يجعلها تقع في فخ الاعتراف بأن ما وصفته »تعسفا« بالوهم ليس إلا حقيقة.. إلا انها بعد ادراك الحقيقة تباشر ممارسة سمة الاستئثار وانها هي التي اكتشفت الأمر وأنها أول من عالجته بحيث يظل الآخرون »عبثيين« لا يدركون ما تدركه بعبقريتها الإدارية والعلمية الفذة.. سوف نعود للحديث مرة أخري عن ابعاد فجوة الإدارة متعددة الأبعاد في واقعنا للكشف عن ادوات السيطرة السلبية التي لابد من تقويم من يمارسها حتي يفيق ويكف عما يفعله لأن ذلك ليس في صالح أي طرف.. وهذا الأمر يتطلب الوعي به والتدريب وممارسة التفاوض النضالي لعبور هذه الفجوة والله ولي التوفيق.