للقرآن الكريم حديث عجيب عن البقاع والأماكن الموصوفة بالأمان، والمحفوفة بسياج من الحماية، يتعذر تفسيره في أحيان كثيرة، ويمكن تعليله وفهم قوانينه أحيانا، ولقد تدبرت كتاب الله تعالي، وذهني مشغول بهذه القضية، وأنا أتتبع كل كلمة أمان في القرآن الكريم، لأستخرج منها ما تشير إليه من سنن سارية في المجتمعات والحضارات، فلفتت نظري هذه الظاهرة القرآنية العجيبة، والجديرة بالتأمل، وهي أن الله تعالي وصف ثلاثة أماكن محددة بأنها بقاع أمان وأن أهلها آمنون، مع الإشارة القرآنية اللطيفة إلي منظومة الأسباب والإجراءات التي يمكن من خلالها تحقق هذا الأمان، بالإضافة إلي موضع رابع يبين الله تعالي فيه عاقبة من تمرد علي ذلك الأمان، وسعي في إفساده، واتخذ عددا من الإجراءات المغرقة في الأنانية والظلمانية والشح وعلل النفوس، وعدم خفض الرأس أمام سريان سنن الله وقوانينه في كونه، أما الموضع الأول من مواضع الأمان فهو الجنة، وهي دار السلام، ودارالأمان الأعظم، حيث قال الله تعالي:( إن المتقين في جنات وعيون45 ادخلوها بسلام آمنين46)( سورة الحجر)، فبين سبحانه أن أهلها في أمان مطلق، وأنهم في رعاية الله أبدا، وأنهم في نعيم مقيم، فكانت الجنة أعظم دار للأمان، لا يطرأ علي أهلها قط أي شيء مما ينغص ذلك الأمان، لأنها دار سعادة الأبد، ثم لفت الله تعالي الأنظار إلي أعظم أسباب ذلك الأمان، وهو قوله تعالي في الآية التي بعدها مباشرة:( ونزعنا ما في صدورهم من غل)، مما نفهم منه أن أهم عوامل الأمان هو إزالة الأحقاد، وتصفية بواعث الغل والشحناء من الصدور، فلا أمان للمجتمعات مع وجود بواعث الكراهية والغل، وأما الموضع الثاني فهو الحرم الشريف ومكة المكرمة، حيث قال الله تعالي:( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) ( سورة الفتح، الآية27)، مع قوله تعالي:( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) ( سورة العنكبوت، الآية67)، فبين سبحانه هنا أن حرمه الشريف، هو الموضع القدسي الآمن، وهو قبلة المسلمين، وهو الذي تهوي إليه القلوب تعلقا بما فيه من الآيات والمناسك، ولما أن كان هو الموضع المقصود للحج من ملايين المسلمين، فلقد أعلمهم الله تعالي بأنه جعل تأمينه واجبا محتما، وأنهم ينزلون فيه ضيوفا للرحمن، ويرجعون بزاد روحي وإيماني جليل، وأما الموضع الثالث فهو مصر العظيمة، حيث قال الله تعالي ( فلما دخلوا علي يوسف آوي إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) (سورة يوسف، الآية99)، حيث أجري الله تعالي علي لسان نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم هذه الحلية والضمانة والمكرمة لمصر، وكلام أنبياء الله وحي، وقد سجله الله تعالي في الوحي الأعظم، في القرآن الكريم، حتي تبقي هذه المكرمة علي وجه الأمان، شاهدا مرفوعا لمصر، بأنها ثالث ثلاثة مع الجنة ومكة، من بقاع الآمان والحفظ والرعاية، وهذا شأن جليل، يفتخر به كل مصري أصيل، ويعلم قيمة هذه الأرض المصرية الطيبة المباركة، التي نشأ فيها، ونزل بها، أنبياء الله تعالي، سيدنا إدريس، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا يوسف، وسيدنا يعقوب، وسيدنا موسي، وسيدنا هارون، وسيدنا عيسي، وسيدتنا الصديقة مريم، ونزل فيها الصحابة والتابعون، وأهل البيت النبوي الكريم، والعلماء الكبار من مشارق الأرض ومغاربها، ولم تزل أرض العلم والحكمة والحضارة، وهي بلد الأزهر الشريف، بمنهجه العريق الصانع للعلم والرجال والوطنية عبر تاريخ هذا الوطن، وإن تعثر أو تراجع أداؤه في فترات عابرة، وسوف تبقي بإذن الله تعالي دار الأمان والحفظ، إن لمصر شأنا عجيبا في كيفية اجتيازها المتكرر المستمر للأزمات الطارئة التي عصفت بها عبر تاريخها، وفي ذلك الوقت الذي يظن الناس فيه أن الإنسان المصري قد انهزم وأعلن استسلامه، إذا به يجدد نفسه بنفسه، ويعيد ترميم كل ما تهدم أو تهاوي أو تفكك من أعمدة شخصيته ونفسيته، وهذا السر هو العمود الأساسي في مقدرته علي استعادة ثقته بذاته، وعودة الروح والوعي إليه، واختراقه لكل ما يتلبد من الغيوم والضباب في آفاقه، وهذا التجدد الذاتي الطارد لكل معاني الانهزام أو اليأس بداخله وفي وجدانه هو الذي يتمكن بسببه من استعادة ذاته، وإيمانه بقيمة نفسه ووطنه، وعدم توقفه أمام السيل المنهمر من الأزمات والإشكاليات والأحداث مهما تأزمت وكثرت وتعقدت، لأنه مازال قادرا علي البصر بما وراءها من متانة وإحكام بناء شخصيته وإيمانه بذاته، وبعد الكلام عن تلك المواضع الثلاثة المكرمة، فإنه يتبقي موضع رابع، وصفه الله تعالي بالأمان، ثم وصف سبحانه كيف فعل بمن تمرد علي ذلك الأمان وأفسده، فقال سبحانه:( وجعلنا بينهم وبين القري التي باركنا فيها قري ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) ( سورة سبأ، الآية18)، فهذا موضع رزق الله تعالي أهله الأمان، فماذا كان من أهلها؟، ( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) ( سورة سبأ، الآية19)، فبين سبحانه أنهم لما رفضوا ذلك الأمان، تشتت شملهم، وطواهم التاريخ والنسيان، وصاروا أحاديث تتناقلها الأجيال بعد زوالهم، فليحذر كل إنسان كريم علي أرض مصر، من سائر الطوائف والتيارات والتوجهات، من أبناء الشعب المصري الكريم، من أن يخرق الأمان أو يستهين به، أو أن يجر ضررا لنفسه ولوطنه، أو أن يسعي في هذه البلاد بالفساد، وهو ما لا نرجوه ولا نحبه ولا نرضاه، لأي إنسان علي أرض مصر الطاهرة، والخلاصة أن مصر لها شأن عظيم، ولها عناية ربانية كريمة، ظهر أثرها في تاريخها وحضارتها، وفي أعماق نفسية الإنسان المصري القادر علي استعادة ذاكرته التاريخية والوعي بكل ما تشتمل عليه من ثقة في الذات، وإدراك لقيمة الوطن، وجلال مكوناته وشموخها، والثقة في مقدرته علي تجديد ذاته، واختراق عبثية تشتيته وتفكيكه وإفقاده إيمانه بقيمة نفسه، والتاريخ خير شاهد علي ذلك، وأكبر ثمرة للوعي بكل ما سبق هي استعادة الإنسان المصري لثقته بنفسه وبمقدرته علي الاختراق لجبال من الهموم والتعقيد، ويبقي الحاضر والمستقبل أمانة بأيدينا، ونسأل الله تعالي أن يعيننا جميعا علي ذلك، وسلام علي الصادقين.