مناقشات داخل البرلمان كان من الاقتراحات المعروضة علي لجنة الشئون الدستورية بمجلس الشيوخ اقتراح بقصر حق الانتخاب علي العارفين بالقراءة والكتابة. وقد رفضت اللجنة هذا الاقتراح؛ لأن «اشتراط معرفة القراءة والكتابة في الناخبين ذكورًا أو إناثًا يخالف أحكام الدستور الذي يشترط في المادتين 74 و82 أن يكون الانتخاب لثلاثة أخماس أعضاء مجلس الشيوخ ولجميع أعضاء مجلس النواب بالاقتراع العام، وهذا النظام يتنافي مع كل شرط خاص بالكفاية أو أنصاب المال في الناخبين». وفي اعتقادنا أن اللجنة أصابت في اتخاذ هذا القرار من وجهة النظر إلي الدستور المصري، ومن وجهة النظر إلي المبادئ الديمقراطية وتطبيقها في بلادنا المصرية. فربما جاز قصر الانتخاب علي العارفين بالقراءة والكتابة إذا كان العارفون بهما في الأمة كثرة تتجاوز نصفها علي الأقل؛ لأن تشريع الكثرة ملزم للقلة في هذه الحالة وفقًا لجميع المبادئ الديمقراطية التي تتمثَّل في النظم النيابية. أما أن يكون عدد العارفين بالقراءة والكتابة قلة لا تتجاوز ربع أبناء الأمة جميعًا، فليس من الديمقراطية ولا من الدستور أن تفرض هذه القلة حكمها علي الأمة بأجمعها، وأن تدَّعي لنفسها حقَّ الفصل في الحقوق السياسية بغير سند من المبادئ المعترف بها في الحكومات القائمة علي حكم الشعب لنفسه أو حقه في الإشراف علي وكلائه وأمنائه علي مصالحه العامة. وقد اطَّلَعنا علي حديث للعلامة الجليل الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا في موضوع حقوق الانتخاب يري فيه معاليه أنه قد يمكن أن يقصر «حق التمتع بالحقوق السياسية علي من يعرف القراءة والكتابة من الرجال والنساء علي السواء، وقد طبقت هذا المذهب أمم أمريكا الجنوبية فكان له أحسن الأثر ...» ونحن نعلم حرص العلامة الجليل علي المبادئ الديمقراطية وغيرته علي التزامها وتنفيذها، ونري أن الأمر مختلف بيننا وبين أمم أمريكا الجنوبية من وجوه كثيرة، فربما كان اشتراط القراءة والكتابة في الناخب عندهم ذريعة غير صريحة لإقصاء أبناء الأجناس الملونة عن ميدان الانتخاب من غير حاجة إلي إثارة مسألة الأجناس البشرية والتمييز بينها في الحقوق الطبيعية والسياسية؛ لأن أكثر الجاهلين بالقراءة والكتابة هناك هم من الهنود الحمر والزنوج، فإذا أريد حرمانهم حقَّ الانتخاب بغير إثارة مسألة الأجناس «فالمحلل الشرعي» لذلك هو حرمان الأميين بين جميع الناخبين. وأيًّا كان الغرض من شرط القراءة والكتابة في الناخب، فالذي نراه أنه شرط غير مقبول من الوجهة الديمقراطية إلا علي أساس واحد، وهو أن يكون عدد القارئين والكاتبين كثرة بل كثرة غالبة في الأمة يجوز لها أن تحكم برأيها وأن تفرضه علي القلة الضئيلة في مسألة جوهرية كمسألة الحقوق السياسية.
علي أننا بعد كل ما يقال في صحة هذا الشرط أو بطلانه نعتقد أن المسألة هنا ليست مسألة القراءة والكتابة، ولكنها مسألة التربية الديمقراطية أو التربية السياسية، مع طول المرانة علي الحرية الشخصية. وقد رأينا كثيرًا من الانتخابات تجري في هيئات منظمة ينتمي إليها صفوة المتعلمين، فلم نر أنها سلمت من جميع العيوب التي تؤخذ علي الانتخابات البرلمانية. ويغنينا الإجمال هنا عن التفصيل. ومما هو مشهور متواتر أن الانتخابات في البلاد الإنجليزية تعتبر مثالًا لضبط الإجراءات وصحة تمثيل الأمة، علي اختلاف الأحزاب التي تتولي الحكم في أثناء إجرائها. وليس من المشهور ولا المتواتر أن الفرد الإنجليزي أوفر نصيبًا من التعلم والدراسة من الفرد الفرنسي أو الألماني أو البلجيكي أو الفرد في الولاياتالأمريكية الشمالية. وإنما الفارق في هذه الحالة بين نظام الانتخاب في إنجلترا ونظام الانتخاب في غيرها هو الفارق في طول العهد بالحياة البرلمانية، وفي ذلك التوازن العجيب بين جوانب الرأي في الجزر البريطانية. ولولا هذا التوازن العجيب، وهذه المرانة الطويلة، لما أفاد الإنجليز أن الناخبين عندهم يعرفون القراءة والكتابة؛ لأن الناخبين في أمم أخري يعرفون القراءة والكتابة كما يعرفها الإنجليز ولا تسلم الانتخابات فيها من النقص والخلل والشكوي وتبادل الشك والاتهام. فالوسيلة الوحيدة لتصحيح البرلمانات التي تمثِّل الأمة عندنا هي تصحيح الأمة نفسها. والوسيلة الوحيدة لتصحيح الأمة نفسها هي المرانة الطويلة علي الحياة البرلمانية، والتعلم من نتائج الأخطاء التي تعرض لها في كل انتخاب، ولا سيما إذا اقترنت هذه المرانة بالتقدم المطَّرِد في الثقافة والتعليم وتنظيم المجتمع علي التوازن الطبيعي بين أسباب المعيشة علي اختلافها من زراعية وصناعية واقتصادية. وذلك ما نرجوه، ونلمح طوالعه، ونترقب تمامه في مستقبل قريب.
أما النظر إلي شروط الانتخاب من وجهة حق المرةأة؛ فالذي يبدو لنا أن شيوع الرأي القائل باشتراك المرأة في الحياة السياسية يرجع إلي عوارض موقوتة تلمُّ بالمعسكرين المتقابلين في الوقت الحاضر، وتحتاج إلي حكم الزمن ليُبقي من هذه العوارض ما يبقي ويُزِيل منها ما يزول. فالمعسكر الشيوعي والمعسكر «البرجوازي» يتورَّطان اليوم معًا في المجازفة بإشراك المرأة في المعركة السياسية لأسباب نعتقد أنها أسباب عارضة تنتظر حكم الزمن عليها، ولعله انتظار لا يطول. فالشيوعيون يريدون هدم الأسرة، ويَعنيهم أن يشجعوا كل حركة تؤدي إلي هدمها والقضاء عليها. و«البرجوازيون» لا يريدون هدم الأسرة، ولكنهم مأخوذون في الديار الغربية كلها بعلة أخري معهودة في العادات البرجوازية، وهي وَلَع «البرجوازي» دائمًا بمحاكاة عادات الفروسية أو عادات «الجنتلمان» خليفة عصر الفروسية في العصر الحديث. وكل «برجوازي» يجب أن يظهر للناس في مظهر «الفارس» أو «الجنتلمان»! ... ويجب أن ينحني علي يد «السيدة» ليقبِّلها ويضع فيها حقَّ الانتخاب! أما أن المراة كانت مرعية الجانب حقًّا في عصر الفروسية، فتلك خرافة يدلنا التاريخ علي مبلغ الوهم فيها. وأما أن «البرجوازي» الغربي يحاكي الفارس أو الجنتلمان في مظاهره، فذلك هو العارض الذي ننتظر من الزمن تمحيصه والانتهاء به إلي قراره. ولسنا نحن في الشرق شيوعيين ولا مأخوذين ببقايا عصور الإقطاع والفروسية. فلننتظر عاقبة هذه الغاشية، قبل أن نتورَّط في أمر من الأمور الخطيرة، لغير سبب نعلمه إلا أن غيرنا متورطون فيه!