لماذا يجمع العالم علي ان المصريين خلال 81 يوما أعادوا كتابة تاريخ مصر؟ ولماذا يتفق الجميع علي ان ثورة 52 يناير من أنصع المحطات التاريخية.. وعلي ان الجيل المصري الشاب والخلاق ألهم العالم خلال الأسابيع الأخيرة؟ ولماذا يؤكد الخبراء والمحللون والمراقبون والساسة في عدة عواصم ان مصر الديمقراطية سوف تضطلع بدورها القيادي.. ليس فقط في المنطقة.. بل في العالم؟ حتي الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي كان يساند النظام السابق حتي اللحظة الأخيرة، اضطر الآن أن يعلن »ان الصرخة من أجل الحرية ستذكرنا بالشعب المصري، وبما فعله المصريون.. وكيف غيروا بلادهم.. ومن خلال ذلك.. كيف غيروا العالم«. الإجابة علي هذه الأسئلة بسيطة وواضحة. فقد كتب المصريون صفحة نموذجية في سجل الثورات العالمية الكبري، وهي صفحة استثنائية في طابعها السلمي، والعفوي الراقي. هكذا قادت الثورة جماهير المصريين إلي مستويات مدنية ليبرالية جريئة وأصبحت ثورة شاملة بعد ان التحقت بها فئات وقطاعات اجتماعية واسعة. وكان واضحا منذ البداية ان ما يوحد أبناء الثورة هو البحث عن الكرامة الوطنية والتطلع إلي هدف بناء مجتمع منفتح علي التطور والتقدم والحرية، يستطيع فيه الشباب تحقيق ذواتهم وتفجير طاقاتهم واسقاط سلطة القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي. شباب مصر أراد إقامة نظام يفتح أمامهم آفاق المشاركة والاختيار والمساهمة في صنع القرار وصياغة وتحديد السياسات العامة.. نظام يعكس دور القوي الحية ويعبر عن تطلعات جميع الفئات الشعبية.
انها ثورة ديمقراطية تستهدف إقامة دولة القانون علي مبدأ المواطنة وحق الإنسان المصري في ممارسة دوره وفي حياة لائقة. ومن خلال مطالب الثوار وبرامجهم وشعاراتهم.. تأكد، علي نحو قاطع، إصرارهم علي إقامة دولة حديثة مدنية لجميع مكوناتها وتمشيا مع ثقافة شعبها. كل العرب يعرفون أن تقدمهم يبدأ مع نهوض مصر.. ومع هذا النهوض يستطيعون ان يستردوا هويتهم ودورهم في الساحة الدولية. ولسان حال معظم العرب الآن: »شكرا لثوار مصر الذين انقذونا من أنفسنا، وأعادوا لنا المعني والمغزي.. وشكرا لمن استعاد لنا انسانيتنا وكرامتنا.. شكرا لثوار مصر.. الذين لا اسم لهم.. سوي انهم مصريون«. كل العرب يعرفون قيمة وأهمية موقع مصر الاستراتيجي ودورها الريادي وانعكاس ما يجري فيها علي محيطها الأول، أي العالم العربي. ثورة 52 يناير تحمل معها نضجا فكريا ولم تكن لهذا السبب علي استعداد لقبول اصلاحات شكلية أو تحسينات جزئية أو عمليات تجميلية. وهذا ما يفسر للكثيرين ما لم يدركوه حول معني »اسقاط النظام«. رفض الثوار استبدال حاكم بحاكم ورفضوا مجرد تغيير الوجوه والأسماء مع بقاء نظام يسوقهم إلي حيث يريد. كانوا يدركون ان لعبة النظام التقليدية المكشوفة تسير علي النهج التالي: ان يعين الحاكم أعضاء مجلس الشعب، الذين يقومون بدورهم بتعيينه حاكما للبلاد!! كانوا يدركون ان الحاكم احتكر لنفسه الحق في التفكير ووضع السياسات واتخاذ القرارات بما فيها المصيرية وان دور الشعب يقتصر علي التصفيق وتمجيد الحاكم. كانوا يدركون ان قيام الحاكم بتأسيس حزب، وهو في موقع السلطة، يعني دعوة لكل أصحاب المصالح وجماعات الفاسدين والمفسدين والمنافقين.. إلي الاحتماء بمظلة الحزب الحاكم وتأمين مصالحهم والاثراء علي حساب الشعب بطرق غير مشروعة. وفي السنوات الأخيرة لم تتوقف الاحتجاجات الشعبية ضد الفقر والفساد والقمع، ولكن النظام لم يتغير، وإنما اكتفي بلعبة تغيير الوجوه لتهدئة الغضب الشعبي وخداع المواطنين. وانكشف خضوع أجهزة الدولة لإرادة فرد واحد وقبيلته العائلية مع ما يجره ذلك من استخفاف بالقوانين والقيم العامة. وها هو نظام جمهوري يدعي الخصومة مع النظام الملكي في نظام الحكم وبنية الدولة يتحول عمليا إلي ديكتاتورية أبدية يملك فيها »الرئيس« الأرض ومن عليها!
لم ينخدع المصريون بالمزاعم القائلة بأن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي مجرد أفكار »مستوردة من الغرب«، كما لم يقتنعوا، في أي يوم من الأيام، بأن »الخطر الخارجي« يصلح كمبرر لفرض الديكتاتورية. وبعد تجربة طويلة تأكد لدي المصريين أنهم بإزاء »نظام« يزيد ثروات الأغنياء ويزيد فقر الفقراء، ويوسع الفوارق بين الطبقات علي نحو غير مسبوق، ويحمي الفساد والفاسدين الذين يستنزفون ثروات البلاد ويحتكرون السلطة إلي جانب الثروة. بل ان »النظام« أصاب البلاد بحالة من الجمود والشلل. الوزراء الموظفون في مكتب رئاسة البلاد ينتظرون التعليمات والتوجيهات، ولا يستطيعون القيام بأي مبادرة حتي لو وقعت كارثة حتي لا يتعرضون للاتهام بأنهم يتصرفون كوزراء حقيقيين. والنتيجة هي انه اذا أقدم الوزير علي تصرف صائب أو تصادف انه حقق نجاحا.. فإن الفضل في ذلك يعود إلي »الرئيس«.. أما اذا فشل الوزير وهذا الفشل هو القاعدة علي طول الخط فإنه هو الذي يتحمل وحده المسئولية.. حتي لو كان هذا الفشل نتيجة حتمية لتوجيهات الرئيس! وكان لابد أن تتدهور الأوضاع في مصر، لأن الرئيس يملك سلطات مطلقة بل كل السلطات ولا يخضع للمساءلة والحساب، وفي نفس الوقت فإنه لا وجود لبرلمان حقيقي يراقب حكومة الموظفين. أليس هذا هو المناخ الملائم لتفاقم الفساد؟ من هنا أدرك الثوار ان المشكلة ليست مشكلة شخص الحاكم وإنما.. »النظام« الذي يضمن ان يغري أي شخص يتولي الرئاسة في ظل هذه السلطات المطلقة علي ممارسة حكم الفرد المطلق ويصبح ديكتاتورا.. حتي لو كان، في الأصل، من فصيلة الملائكة! بقيت ملاحظة مهمة تؤكد وعي ثوار 52 يناير وتخلف عدد من أدعياء الديمقراطية الذين أدمنوا عبادة الأنظمة غير الديمقراطية. هؤلاء يروجون لحكم عسكري وشرعوا في منافقة المجلس الأعلي للقوات المسلحة. ولكن.. القادة العسكريين الذين فهموا محتوي رسالة ثورة 52 يناير لم يستجيبوا لهذه الدعوات المناهضة للثورة، وأكدوا في جميع بياناتهم انهم ملتزمون بتنفيذ تعهداتهم بشأن المطالب المشروعة للشعب وبالديمقراطية وبالدولة المدنية. هذه المرة لن ينفع النفاق هؤلاء الأدعياء، لأن هناك من يفهمون معني ومغزي ما حدث في مصر طوال 81 يوما من أعظم الأيام.