تأتي قرارات النائب العام الدكتور عبدالمجيد محمود بمنع سفر بعض المسئولين السابقين وتجميد ارصدتهم في البنوك بداية مبكرة جدا لمواجهة بعض الاوضاع والسياسات التي افضت الي غضب الشباب وثورتهم علي النحو الذي نشهد فصوله ووقائعه في اللحظة الراهنة.. وهي »مبكرة جدا« لان الحكومة وعلي لسان رئيسها الدكتور احمد شفيق وان وعدت بالتصدي للفساد والتحقيق في الاسباب التي ادت للكارثة التي حاقت بمصر لديها الآن بالقطع منظومة اولويات اخري مزدحمة للغاية.. إلا ان الجدية التي علمت اداء الفريق شفيق وسرعة حركته في تلبية اي احتياج حال، والصرامة التي يستعمل بها المستشار عبدالمجيد محمود صلاحياته دفاعا عن الشعب دفعت بهذا الاجراء لاحتلال مكانه الآن، ومن قبل تحقيق اختراق في الازمة السياسية المستحكمة او التقدم خطوة علي طريق مواءمة تحقيق بعض من رؤية كل طرف. اكتساب الثقة في النفس واعادة بناء جسورها مع الناس مهمة عاجلة للادارة المصرية الجديدة ومن ثم فإن واحدا من احجار الاساس فيها هو التجاوب مع اشواق مصرية شعبية طال انتظار تحقيقها في مواجهة الفساد، وسوء الادارة والاضرار المتواصل بمصالح الشعب والتي جعلت من محاسبة اي مسئول امرا يبدو للذهن العام مستحيلا او يقترب من ذلك. نحن الآن نعيش تجليا رائعا لزمن مابعد 25 يناير وهو حضور معني (المحاسبة) اخيرا.. وحين اقول المحاسبة لا اعني من بعيد او قريب الروح الانتقامية الهائجة والعشوائية التي تصاحب الثورات والحركات الكبري لان الادارة المصرية بشقيها التنفيذي والقانوني لم تلجأ الي اجراء استثنائي خارج نطاق مؤسسة القانون رغم اننا نمر بظرف شديد الاستثنائية ، وانما عهدت الي محامي الشعب »النائب العام« باتخاذ المسلك القانوني الصحيح وقد فعل في اطار اجراءات احترازية ضرورية تضمن حقوق الناس وتعضد معني المحاسبة. لقد كان احد المسارات الوعرة والصعبة التي اسلمتنا الي عتبة 25 يناير تلك الثقافة الاقصائية التي اطاحت الناس الي ابعد بعيد علي المستوي السياسي او علي المستوي الاقتصادي الاجتماعي. فعلي حين تعددت الاسباب التي من اجلها يستبعد هذا الفصيل او ذاك من الاسهام باجتهاده في ساحة عمل سياسي ديمقراطي.. وعلي حين تمت هندسة أسوأ عملية انتخابية في تاريخ مصر، استبعدت كل قوي المعارضة واستقطبت المجتمع السياسي بأكمله ضد النظام ، فإن عملية اخري لاقصاء الناس جرت وقائعها علي النطاق الاقتصادي الاجتماعي بتبني سياسات وافكار من شأنها افقارهم لصالح طبقة من الاثرياء الصاعدين والاميين »اجتماعيا ووطنيا« والذين وجدوا في الحكومة السابقة ساحة لتصعيد رموزهم ليقبضوا علي الحقائب الوزارية ويحتلوا المناصب التنفيذية في تمرين مشهور »بلغة الرياضيات« لتغييب المعايير واغتيالها.. غاب معني العدل الاجتماعي وواجبات حزمة »دولة الرفاة« في المجتمعات الرأسمالية »الضرائب الضمان الاجتماعي التأمين الصحي« واتسعت فجوة الفوارق لدرجة حسمت القسمة الاجتماعية الي »ناس في المركز« و»ناس في الهوامش« وبما يتفقد اي مقوم لنشأة وتطور مجتمع صحي رأسمالي يمكن ان يستمر ويعيش. واذكر انني حين كنت اذكر مثل تلك الآراء لبعض من وزراء تلك المرحلة قبيل التسجيل في برنامجي التليفزيوني »حالة حوار« ان بعضهم ولابد من النقاش وتبادل وجهات النظر كان يعمد مباشرة الي اتهامي بأنني صاحب خطاب ستينياتي ناصري ..لا بل وفي الحوارات المسجلة معهم كانت اكثر النقاط التي تثير تأففهم وتبرمهم وبرطمتهم هي الكلام عن الناس او الفقراء.. فقد كان كل منهم يحمل »لاب توب« ويلعب علي ازراره باصابعه كالبيانيست مختزلا علاقته بالوطن في شاشته، من دون العبور الي ما وراء تلك الشاشة من اوضاع بائسة يعلو فيها صوت الانين الي حد لم نخبره من قبل. وحين ضج المثقفون والسياسيون يصرخون فيهم بالتواصل مع الناس فهموه بأنه »الاستوصال عن بعد« يعني ادعاء التواصل صوتيا وعدم ملامسة الواقع فعليا والتعبير عن معادلاته الواقعية، التي ربما تفرض عليهم الالتزام بما يجاوز مصالحهم الفردية الضيقة، ومصالح طبقتهم التي راحت تشيد حولها اسوار عزلة ظنتها تحقق المنعة والحصانة. ثم كان الترسيخ الكبير لمؤسسة الفساد تحت رعاية الزيجة الحرام بين الثروة والسلطة، والتي اثمرت ملفات زكمت رائحتها الانوف، واستقطبت مشاعر الغضب الي اقصي الحدود بعد ان ابعدت الناس عن حق المشاركة في تشكيل حيواتهم ومستقبلهم. ولما كان مجلس الشعب هو احدي الادوات الرئيسية في المحاسبة والتصدي للفساد فقد كان اختطافه البشع يعني سلب المجتمع احدي طرائقه الطبيعية في الاشتباك مع الفساد ، فأطلق المجتمع طاقة غضبه في مظاهرات الشباب التي تعد اقوي مظاهر الاحتجاج المصري في العصر الحديث والتي كانت حالة ديمقراطية بطبعها كونها ضمت كل اطياف الفكر والسياسة الاسلامية والليبرالية واليسارية وكونها سلمية لم تتخل عن سلميتها في اي من مراحلها.. الناس مارسوا الديمقراطية في الشارع حين لم يتسن لهم ممارستها في البرلمان. الناس يعرفون ان الديمقراطية شقان: »مسئولية« و»محاسبية« ولكنهم منعوا من انتخاب من يحملونهم المسئولية وسلبوا حقوقهم في الحساب.. لأجل كل ذلك كان البدء باجراءات ملاحقة الفساد والاسباب والسياسات التي افضت الي انفجار ثورة الناس بضغط ليحتل اولوية متقدمة في لحظة صعبة مزدحمة بالاولويات.. ولأجل ذلك كان تحرك رئيس الوزراء واجراءات النائب العام خطوة مهمة في الطريق الصحيح. الي ذلك فالناس »ودون تغليب اية بواعث انتقامية متخلفة« لايقنعهم ان يكون عدد محدود جدا من الاشخاص هدف تلك الاجراءات وألا نكون بصدد الحديث عن بضعة اكباش فداء.. الناس تريد مواجهة بالعرض مع الفساد.. وزراء ومسئولون ورؤساء مؤسسات وهيئات وشركات عامة ورجال اعمال ومراكز قوة في النظام وخارجه كانوا باستمرار محل تساؤل مستنكر من الضمير العام حين راقب الناس التضخم غير المفهوم في ثرواتهم وشاهدوا عبر صفحات المجتمع في الجرائد السفه غير المنطقي في انفاقهم وسلوكهم. الناس تريد ان تدخل موقعة فاصلة »هرمجيدون« مع الفساد واجراءات النائب العام خطوة اولي في هذا السياق تأتي في لحظة صعبة ولكنها تجاوز ماعداها من اولويات في هذه المرحلة التي ندعو الله من صميم القلب ان يتخطاها الوطن المفدي. الي ذلك فإن هناك دلالة اخري لكلمة »الحساب« غير ذلك المعني القانوني، واعني بها الدلالة الاقتصادية.. اذ وسط الاطلال التي نقف عليها الآن ينبغي ان نسأل: »من الذي سيدفع فاتورة ذلك الخراب؟!«.. بالقطع لاينبغي ان ندفعها نحن، او آباء وامهات الشباب الذين تظاهروا واحتجوا.. وانما بقول واحد وبدون مناقشة او لجاج ينبغي ان يسددها الاغنياء في هذا البلد، والذين راكموا ثرواتهم في غياب حقيقي لحضور معني العدل الاجتماعي. نريد ان نري اجراءات متعاقبة وسريعة تسمح بتلك الاقتطاعات.. وانا لاادعو لفكر اشتراكي ولا اشتري في نفس الوقت فزاعات تقول إن الاجراءات ذات الطابع الاجتماعي تخيف الاستثمار فلم يعد هناك استثمار يمكن اخافته، كما ان الدنيا كلها وفي الازمتين الماليتين العالميتين الاخيرتين عرفت العودة الي دور الدولة في الاقتصاد، والدنيا كلها تطبق اجراءات الرفاة الاجتماعي عبر »الضرائب والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي وحزمة سياسات اخري« بما يعصم المجتمعات من الحزازات والاحتكاكات ذات الطابع الاجتماعي. وفوق هذا فأنا لا اخاف من اتهام خطابي بالاشتراكية او الناصرية كما كان وزراء نظيف الحلوين يصفونني اذ ان الناصرية ليست تهمة وهي نموذج سياسي/اجتماعي/ وطني قابل للتطور بأكثر من نماذج اخري كثيرة. الفاتورة يجب تقديمها الي اولئك. اصحاب المنتجعات والقصور والسيارات الفارهة والعزب والكلاب النادرة والمجوهرات المصنفة والطائرات الخاصة والذين لم يعرفوا إلا باستثناءات نادرة جدا منطق المسئولية الاجتماعية لرأس المال. وهذا هو معني آخر اضافي لكلمة »الحساب«. بقي القول انني وددت التجائي الي شرفة »الاخبار« الواسعة »ذات الجماهيرية والقدرة علي النفاذ والوصول، وذات المهنية والخطاب السياسي المتوازن والوطني، ان يأتي في ظرف اقل وحشة وقتامة مما نمر به او بملابساته المعقدة التي تحوطه.. إلا ان طبيعة هذا الظرف في ذاتها كانت مبررا حسم اي تردد وقطع الطريق علي اسراف وايغال في حسابات وظيفية لاينبغي ان نتلكأ امامها فتقعدنا عن اداء ادوارنا انتظارا لان تتغير المقادير وتمنحنا ظروفا افضل حيث انتماءنا »الوظيفي« وحيث يفترض ان يكون اسهامنا الطبيعي. نعم.. اكتب اليوم في »الاخبار« الغراء مقدما الانتماء »المهني« و»السياسي« علي الرابطة »الوظيفية« وعائدا الي منبرها حيث تعلمت واكتسبت ادوات المهنة وحاستها منذ مايقرب من اربعة عقود.