علي الرغم من أن أمور الغذاء تخص منظمة الأغذية والزراعة ثم برنامج الغذاء العالمي التابعين للأمم المتحدة إلا أن السيد روبرت زوليك رئيس البنك الدولي يقحم نفسه في أزمات الغذاء والتي لا تخص البنك الدولي والمختص فقط بالتنمية الاقتصادية والمستدامة للدول. فعلي هامش بدء أزمة جديدة للغذاء علي مدار الأشهر الثلاثة الماضية ارتفع فيها المؤشر العام لأسعار الغذاء مجتمعة إلي أعلي من مثيله أثناء ذروة أزمة الغذاء لعامي 2007 و 2008 بمقدار 25٪ وهو المؤشر الذي يضم خمسا وخمسين سلعة غذائية أساسية مقسمة علي خمس مجموعات (فعلي سبيل المثال تضم مجموعة اللحوم لحوم العجول والدواجن والضأن والخنزير)، خرج علينا السيد زوليك بتصريحين خاطئين. الأول هو مطالبته لمجموعة العشرين بزيادة إنتاجها من الغذاء للتغلب علي الأزمة العالمية للغذاء الحالية والتي بدأت توا وهو تصريح يدل علي سوء فهم وتقدير لأمور إنتاج الغذاء. فالذي لا يعلمه مدير البنك الدولي أن زيادة إنتاج الغذاء يتطلب وقتا يتراوح بين عام إلي عام ونصف العام وبالتالي فإنه لا يمكن زيادة إنتاج الغذاء فورا للتغلب علي الأزمة الحالية للغذاء. وللإيضاح فإنه وبعد إنتهاء موسم زراعة الحاصلات الشتوية في مصر بانتهاء شهر ديسمبر فإن زيادة مصر لإنتاجها من محصول القمح الشتوي تتطلب أن ننتظر حتي شهر نوفمبر القادم لنزرع القمح ثم ننتظر حتي نهاية شهر مايو من العام المقبل لحصاد هذا القمح وبدء استخدامه وهذا يستغرق عاما ونصف العام!!!، وفي المقابل وفي الحاصلات الصيفية مثل الذرة والأرز وزيوت الطعام المستخرجة من بذور فول الصويا ودوار الشمس وبذرة القطن، فإن علينا الانتظار حتي شهري إبريل ومايو القادمين لزراعة هذه الحاصلات ثم الانتظار لحصادها في نهاية العام وهذا يستغرق العام بأكمله وبما يوضح تسرع زوليك في تصورة أن زيادة إنتاج الغذاء يمكن أن تتم بصورة فورية لحل الأزمة الحالية للغذاء. التصريح الثاني المفجع لمدير البنك الدولي هو مطالبته لحكومات الدول النامية والفقيرة بعدم التدخل في أسعار الغذاء في أسواقها الداخلية وترك الفقراء يشترون الغذاء في رواندا وبروندي والكونغو وإثيوبيا وتونس والجزائر والأردن ومصر بنفس الأسعار التي يشتري بها الأغنياء الأغذية في أسواق نيويورك وواشنطن وباريس ولندن وبرن وطوكيو!!!!، فهل مستويات الدخول في الدول الفقيرة والنامية تماثل مستويات الدخول في الدول الصناعية الكبري والمتقدمة حتي يشترونا الغذاء بالأسعار الحرة!!؟؟. فالمواطنون في الدول النامية يعانون من ثلاثية إنخفاض الدخول وارتفاع أسعار الغذاء والبطالة، وينفقون علي الغذاء ما بين 60 - 80٪ من دخلولهم في حين ينفق الأغنياء في الدول المتقدمة ما بين 10 - 15٪ فقط من دخولهم علي الغذاء. وهذه التوصية الخاطئة هي التي خلقت الاضطرابات الحالية في الجزائر والأردن نتيجة لتصديقهم لتوصيات البنك الدولي ولكن سرعان ما أعلنت حكومتا الأردن والجزائر تخفيض أسعار العديد من السلع الأساسية والمحروقات لأنه واقعيا وخلال الأزمات خاصة الغذائية منها فلا بد أن تكون الحكومة هي بابا وماما لكل المواطنين حتي لا تكون العواقب وخيمة. البدائل التي طرحها السيد زوليك علي الدول الفقيرة بخلاف دعم الغذاء والتدخل في أسواقه هي أن تقوم الحكومات النامية بتقديم زيادة فورية في الدخول لمواطنيها وكأن هذا بالأمر السهل واليسير والقابل للتنفيذ الفوري لحكومات ذات اقتصاديات ضعيفة غير قادرة علي تلبية متطلبات التنمية في دولها أو حتي القدرة علي استيراد الغذاء بأسعاره المرتفعة الحالية ويعاني الكثير من مواطنيها من الجوع والفقر وبالتالي فهي غير قادرة أكثر وأكثر علي زيادة مستويات المرتبات والدخول لمحدودي الدخل. البديل الثاني المقترح من مدير البنك الدولي هو تقديم المساعدات الغذائية عن طريق كوبونات الغذاء بما فيها البطاقات التموينية للفقراء مع ترك الأسواق حرة دون تشوهات في الأسعار، وهذا أيضا مقترح غير قابل للتطبيق في الدول الفقيرة لأن ما يقدم من سلع علي البطاقات التموينية أو كوبونات الغذاء لا يلبي إلا الحد الأدني لمتطلبات الحياة ولا يتجاوز نصف احتياجات الفرد الشهرية من الطعام. وللايضاح فإن متوسط استهلاك الفرد في مصر من الأرز هو أربعة كجم شهريا توفر له الدولة نصفها فقط علي البطاقات التموينية (وبجودة متدنية ونسبة كسر 14٪) بمعدل 2 كجم شهريا للفرد وعليه أن يستكمل باقي احتياجاته بالأسعار الحرة من أسواق التجزئة، وزيت الطعام لا يوفر إلا ثلث الاحتياجات الشهرية ونصف الاحتياجات من السكر، كما وأن هذه السلع الثلاث ليست هي كل السلع الغذائية التي يستهلكها الأفراد حيث لا تتضمن كوبونات الغذاء أو البطاقات التموينية أي حصص من اللحوم الحمراء أو الدواجن أو حتي بدائلها النباتية من بروتين الفول والعدس والفاصوليا الجافة واللوبيا وما شابه، كما أنها لا تتضمن بدائل الأرز من المكرونة، بمعني أن كوبونات الغذاء والبطاقات التموينية لا توفر أكثر من ثلاث سلع أساسية فقط من إجمالي خمس وخمسين سلعة غذائية يتناولها الإنسان في وجباته الثلاث اليومية علي مدار الشهر، وبالتالي فلا قدرة لأي دول نامية أو فقيرة توفير ودعم اسعار هذا الكم من السلع الغذائية. قررت الجزائر أن تتولي الحكومة بنفسها استيراد العديد من صنوف الغذاء الأساسية لما لمسوه من مبالغة القطاع الخاص المستورد لهذه السلع في هامش ربحه منها غير عابئ بتوجيهات الحكومة بأن هامش الربح في تجارة السلع الغذائية دائما ما يكون منخفضا لكونها سلعا سريعة الدوران ودائمة ومتجددة ويومية المبيع بخلاف السلع الكهربية أو الصناعية والتي لا يشتريها المستهلك إلا مرات قليلة فقط طوال حياته، وهذا ما يجب علي مستوردي الأغذية في مصر استيعابه وإلا أن تقوم هيئة السلع التموينية بسابق ما كانت تقوم به في السابق من استيرادها لنحو 55 سلعة غذائية واستراتيجية لتوفير الاستقرار المجتمعي في مصر. كاتب المقال : استاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة