طُبقت الدورة الزراعية لعشرات السنين في الزراعات المصرية بهدف الحفاظ علي خصوبة الأراضي الزراعية وحمايتها من التدهور أو من استنزاف خصوبتها وعناصرها الغذائية، وكذلك من أجل ضمان الحصول علي أعلي إنتاجية من كل زرعة سواء في الموسم الشتوي أو الصيفي. وتميزت الدورة الزراعية دائما بزراعة محصول مفيد ومخصب للتربة »مثل الفول والعدس« عقب محصول مجهد ومستنزف لخصوبتها »القطن والأرز والذرة«، كما أنها توصي بمحصول مقاوم للإصابات المرضية أو ديدان التربة عقب محصول غير مقاوم حتي لا تتوطن أمراض وفطريات وحشرات التربة بما يصعب القضاء عليها بعد ذلك. هذا النظام الخاص بتدوير حاصلات التربة المختلفة وعدم تكرار زراعتها علي فترات قريبة في نفس المكان قبل ضمان سلامة وخصوبة التربة كان ضمانا لتعظيم الإنتاجية الزراعية كما ونوعا. ومن أهم مميزات الدورة الزراعية كان نظام التجميع الزراعي للتغلب علي تفتيت الملكيات الزراعية السائد في الأراضي القديمة والتي تشير إلي أن 70٪ منها ملكيات »أو إيجارات« أقل من فدان واحد وأن 90٪ لملكيات اقل من ثلاثة أفدنة وهو ما يدخل في علم الاقتصاد الزراعي تحت مسمي الملكيات الصغيرة وشديدة الصغر والتي تنخفض معها الجدوي الاقتصادية للربح. وعلي الرغم من شيوع التفتيت الزراعي والملكيات الصغيرة في جميع البلدان النامية إلا أنها تنتج أكثر من 80٪ من الغذاء في هذه الدول وأن الأمل الأكبر لزيادة إنتاج الغذاء العالمي مأمول فقط من هذه الملكيات الصغيرة نظرا لأن الملكيات الكبيرة في الدول المتقدمة قد وصلت إلي أعلي إنتاجيتها نتيجة لاستخدامها لكل وسائل التكنولوجيا المتاحة لزيادة إنتاجية وحدة المساحة والمياه بعكس الإنتاجية المتدنية من أراضي الدول الفقيرة. هذه الدورة الزراعية بتحديد مساحات لحوّش وقري بأكملها لزراعة القمح مثلا أو القطن أو الفول أو الذرة كانت نموذجا مثاليا للتجميع الزراعي تحت رعاية الدولة وبمشاركة من التعاونيات الأهلية والحكومية وكأنه كان تجميعا للملكيات المفتتة بالتراضي والإقتناع أو وكأنها كانت موثقا غير مكتوب بين الدولة وصغار المزارعين يهدف لصالح الفلاح والدولة ويحمي الأراضي الزراعية من التدهور ويوحد العمليات الزراعية لقري بأكملها بما يخفض تكاليف هذه الخدمات علي المزارعين بدء الحرث والتسوية بالليزر وتوفير التقاوي المحسنة والزراعة بالسطارة ومقاومة الآفات والحشرات بماكينات الرش العملاقة ثم الحصاد والجني والدراس الآلي حتي توريد المحصول للدولة بما يحقق أقل تكاليف وأقصي عائد. ومع تحرير الكثير من الأمور الخاصة بتحرير الاقتصاد المصري تم تحرير الزراعة المصرية مما تصوره البعض قيودا علي حرية الزراعة وحرية المزارع في تحديد زراعاته دون أدني تحديد لخطة الدولة في توفير الغذاء وزيادة الإنتاج من الحاصلات الاستراتيجية التي نستورد منها الكثير من احتياجاتنا من أسواق متقلبة وغير آمنة يتحكم فيها العديد من جبابرة المضاربة بأقوات الشعوب وأمنها الغذائي والتي من أهمها حاصلات القمح وزيوت الغذاء والسكر والذرة والفول والعدس واللحوم الحمراء والألبان ومنتجاتها وجميعها من إفرازات قطاع الزراعة وحده. هذه الحرية في الزراعة هي التي أوصلت مساحات زراعة لب القزقزة والفول السوداني إلي مليون فدان في العروة الصيفية بدلا من التوسع في زراعات حاصلات زيوت الطعام والتي من أهمها عباد الشمس وفول الصويا وبذرة القطن التي نستورد أكثر من 90٪ من احتياجاتنا منها من الخارج أو ذرة الأعلاف النباتية التي نستورد 50٪ منها من الخارج بكميات وصلت إلي 5.5 مليون طن سنويا. وفي الأيام الأخيرة تسربت أخبار عديدة إلي المزارعين الصغار في صعيد وقري مصر تشير إلي اتجاه وزارة الزراعة إلي استقدام شركات أجنبية صينية وكورية لإدارة المزارع المصرية المفتتة بحيث تتولي عملية تجميع الملكيات الزراعية وتدير هذه الأراضي لحساب ملاكها دون المساس بحقوق الملكية ولكنها تدير وتحدد المزروعات وتستخدم الميكنة والتكنولوجيا لزيادة إنتاجية هذه الأراضي. هذه الأمور أثارت مخاوف المزارع من انتزاع ولايته علي أرضه وتقييد حريته في زراعاته ثم احتمال عمله كأجير في ملكيته وأراضي عائلته بما حدا بالسيد رئيس الوزراء إلي التصريح بأنه لا مساس بحقوق الملكيات الزراعية مهما صغرت لأن الملكية مصونة بحكم القانون. ولأن أهم أسباب نجاح السياسات المستقبلية خاصة الزراعية منها ترتبط بشكل أساسي بتوقيت صدورها ثم بالمعرفة الكاملة لسلوك ونمط تفكير المنتفعين والمستفيدين والمستهدفين لهذه السياسات فكان من الأفضل الاستعانة بخبراء علم الاجتماع الزراعي والريفي للتعرف علي أن فكر الفلاح والصعيدي المصري شديدة المراس ومن الصعب إقناعه بأن يسلم أرضه لشركة أجنبية تديرها بالنيابة عنه ثم يتسلم عائدا مجزيا في نهاية كل زراعة مع تحويله من مالك إلي أجير داخل أرضه بالإضافة إلي المخاوف الأكبر من هلاوس التأميم أو المصادرة المستقبلية رغم التأكيد السابق بأن الملكيات الخاصة مصونة بحكم القانون ولكن أمام سطوة الدولة فالأمر مختلف. بعد السرد السابق هل يكون من الأفضل لقرانا وزارعينا في الصعيد وبحري العودة إلي الدورة الزراعية أم يكون بشركات الإدارة الأجنبية لإدارة زراعات أعرق دولة في العالم في المجال الزراعي!!! وهل تحتاج الزراعة في مصر إلي الخبراء الأجانب في الإدارة في ظل وجود كل هذا الكم من الخبراء المصريين الأدري بأراضيهم وزراعاتهم ومناخهم سواء في كليات الزراعة أو مراكز البحوث الزراعية، وهل تجربة شركات النظافة الأجنبية الفاشلة لم تكن معبرة عن أن المصريين أدري بشعابهم وقراهم. ثمانية عشر كلية زراعة مع مركز بحوث زراعية هو الأفضل في الشرق الأوسط وآلاف من أساتذة وخبراء الزراعة ثم نستقدم الصينيين والكوريين لإدارة أراضينا!!، هل يرضي ذلك أحدا!!؟