الدولة المدنية الحديثة هي الدرع الواقية للحفاظ علي أمن وسلامة الوطن. واستكمال بناء هذه الدولة، بكل مؤسساتها، يشكل ضرورة عاجلة وملحة، لكي تقوم علي الديمقراطية والمساواة والتكافؤ واعمال القانون والعدالة الاجتماعية.. وبذلك نحقق أقصي درجات الوحدة والتماسك والتلاحم للجماعة الوطنية.. وفي مجموعة دراسات يصدرها »مواطنون في وطن واحد«، رصد لبعض المظاهر غير الخافية علي أحد في شتي مناحي حياتنا.. يمكن ان تؤدي الي نتائج سلبية، مثل الاستقطاب والتناحر والتعصب.. واستمرار هذه السلبيات يمثل تهديدا للمؤسسات وتحديا للقانون ويقود الي انسداد أفق الحوار. وتحذر مجموعة »مواطنون في وطن واحد« - وهي جماعة ثقافية مدنية مستقلة ينطلق وعيها بالشأن الوطني العام من استلهام الخبرة الوطنية المصرية ودفع حركة المجتمع الي التقدم .. تحذر من فقدان أفراد مجتمع من المجتمعات لقدرتهم علي التواصل العاقل، لان ذلك يعد »علامة علي تحلل المجتمع«، كما يقول »تي.إس.أليوت«. وعندما تنتعش المصالح الضيقة علي حساب المصلحة العامة والطائفية علي حساب الوطنية، والغيبيات والخرافة علي حساب العلم والعقل.. فان هذا نذير خطر حقيقي.. وما ينادي به الباحث والكاتب »سمير مرقص« وآخرون هو ان تبقي مصر وطنا واحدا لكل مواطنيها بغير تمييز، لان الصديق الراحل محمد السيد سعيد كان علي حق عندما اكد انه لا يوجد حل للمشكلة الطائفية من داخل منطق الطائفية، بل يوجد حل فقط من داخل مبدأ المواطنة. المطلوب، إذن، القيام بمساهمات لتخفيف الاحتقان والمواقف المتشددة، والحث علي تبني الحوار الوطني واكتشاف مصادر الخطر الي تهدد الوحدة الوطنية.. كسبيل للخروج من المأزق الممتد عبر عقود، وعدم التلكؤ أمام جراح الحاضر ومراراته.. ولما كانت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين لا تقوم علي الندية والتنافس أو الخصومة والصراع، وانما هي علاقة تقوم علي التكامل الوطني بين مكوني الجماعة المصرية.. تتجاوز الحلبة السياسية.. الي ما هو وطني جامع. والفكرة التي قد تغيب عن البعض، هي بالتحديد التي تلح عليها مجموعة »مواطنون في وطن واحد« وهي ان الشأن القبطي هم وطني عام يوضع في اطار مشاكل عموم المصريين، بمعني ان هذا الشأن القبطي يجب تناوله من منظور المواطنة، اي وضعه في السياق الوطني العام. والسبيل الي ذلك هو إتاحة الفرص المتساوية للمشاركة والتعبير عن المصالح والهموم من جانب كل ابناء الامة المصرية، بصرف النظر عن الانتماء الديني أو الموقع السياسي أو الموقف الايديولوجي أو الوضع الاقتصادي.. والهدف من الفكرة المشار إليها، سابقا، هو الدفاع عن الخبرة التاريخية الوطنية وتحقيق الاندماج الوطني.. ولما كانت مسيرة العلاقات الاسلامية - المسيحية تشهد توترا ملحوظا علي مدي اربعة عقود ظهرت خلالها عوامل وعناصر تحول دون توفير مناخ طبيعي للحرية الدينية.. ولما كانت هذه العوامل والعناصر توظف المشاعر الدينية المتأججة لدي كل طرف الي حد التحريض علي استخدام أشكال من الاحتجاج والتجريح.. وربما العنف.. فمن هنا تتضح أهمية تقديم حلول جذرية تفصيلية لمشاكل مزمنة للخروج من حالة التباطؤ الحكومي في التعامل مع الشأن القبطي، وإزالة العوائق امام بناء الجسور، والتخلص من الشوائب التي تؤثر سلبا في الروح الوطنية المصرية في وقت تشهد فيه المنطقة سريان »فيروس التفكيك« علي حد تعبير مجموعة »مواطنون في وطن واحد«.. ومما يضاعف من أهمية هذه الحلول ان ثمة اتجاها لتحريك أسباب الفرقة وتكريس الكراهية والنظرة الدونية للاخر، وبروز ثقافة وصحافة تروج لتيارات واحدة وتقسيمات دينية حتي وصل الامر الي حد الاعلان عن ان المسلمين خارج حدود الوطن أقرب الي المسلمين من مواطنيهم المسيحيين!. هكذا تجاوز الاحتقان.. حد الأمان. مجموعة »مواطنون في وطن واحد« تقدم مساهمة فكرية مهمة، عن طريق التأكيد علي ان الاقباط مواطنون في المقام الاول وأعضاء في الجماعة الوطنية المصرية فهم لا يشكلون »جماعة مستقلة« أو »كتلة مغلقة«، ذلك أنهم غير متماثلين من حيث الانتماء الاجتماعي والسياسي كما انهم منتشرون »رأسيا« في الجسم الاجتماعي المصري. منهم العامل والفلاح والمهني والحرفي ورجال الاعمال والتجار، ولا يربط بينهم سوي الانتماء لمصر من جانب والانتماء الديني من جانب آخر.. وبين هذين الانتماءين تفترق المصالح والتحيزات والرؤي. اذن.. الاقباط لا يتحركون في فضاء اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي منفصل، علي حد تعبير الباحث سمير مرقص وزملائه. والمواطنة هي تعبير عن الحركة المشتركة للناس علي أرض الواقع خلال سعيهم من أجل نيل الحقوق- معا- بأبعادها المدنية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية علي قاعدة المساواة مع الاخرين من دون تمييز لأي سبب، واندماج المواطن في العملية الانتاجية بما يتيح له اقتسام الموارد العامة والثروة الوطنية مع الاخرين الذين يعيشون معه في إطار الوطن الواحد. وفي رأي مجموعة »مواطنون في وطن واحد« ان الحركة المشتركة للناس من أجل بناء وطنهم أو الدفاع عنه- بالرغم من التنوع الثقافي وتعدد الخصوصيات- من شأنها مقاومة الالغاء او الاقصاء او الاستبعاد او النفي او الانكفاء. وبالتالي الانتقال من »الخاص الضيق« الي »العام الرحب« أي من دائرة »الانتماء الفرعي«» الي »المجال الوطني الجامع«، ورفض ما يعوق الارتباط الوطني العام، ونبذل كل ما من شأنه ان يصب في اتجاه التفكيك والتفتيت.. ومرة أخري، تدعونا مجموعة »مواطنون..« الي الانتباه واليقظة حيث ان الوهن الذي يصيب الجماعة الوطنية أو إنكار إرادة الاندماج أو كسر الجسور والتنافر والتناحر انما يعني كارثة تلحق بالجميع من دون تمييز. ومتي لحق التفتت بالكلي، فأنه يمتد علي الجماعات الفرعية والي الفرعي داخل الفرعي.. فاضعاف الكلي هو اضعاف للجزئي، وإذا انكفأ الفرعي علي نفسه بغرض الحماية انما يصيبه الجمود ويحكمه الخوف.. كان عبدالله النديم علي حق عندما قال في عام 9781 ان العصبية التي يجب ان يتعصب لها المصريون هي »عصبية الفقراء« والرابطة التي يجب ان يتمسك بها المصريون هي رابطة الوطنية.. اي ان القضايا التي يجب ان ينشغل بها المصريون هي القضايا التي تتهددهم معا، لانه بالمواجهة المشتركة، تصبح المطالب حقوقا للجميع وأمرا مستقرا، فلا تصبح الحقوق مزايا تحظي بها فئة او جماعة علي حساب الاخري، أو بفعل مدد خارجي. ولا يمكن انكار ان استمرار كثير من الهموم دون معالجة وعدم تأمين الحقوق الاساسية وغياب المنهجية والكيفية التي يطرح بها الشأن القبطي.. أسفر عن نتائج يرضي عنها أحد.. ولم يعد من الممكن مواصلة حل مشكلات التوتر الديني بواسطة آليات تتعارض مع جوهر- بل وجود- الدولة المدنية الحديثة، مثل الجلسات العرفية علي الطريقة العثمانية وتبويس اللحي.. وقد نجحت الكنيسة المصرية في ان تكون بحق »كنيسة الوطن« وليست كنيسة الطائفة وكان استقلال مصر وحماية المستضعفين هو همها الاول.. ومن هنا الحاجة الي عقد اجتماعي جديد، وضرورة استعادة فكرة الجماعة الوطنية بديلا عن الهويات الذاتية والمجموعات الدينية. .. فالطريق الي الدولة المدنية الحديثة هو مشروع لتجديد رابطة المواطنة وإنهاء توظيف الدين لتبرير الكثير من الخيارات السياسية والاقتصادية واستعادة شعار الحركة الوطنية: ما تجمعه الأوطان لا تفرقه الأديان.