تحت عنوان عريض وجامع حول »رؤية للمستقبل« كان حوارنا الشامل مع مجموعة كبيرة ومتعددة ومتنوعة من المفكرين والمثقفين والشخصيات العامة يجمع بينهم الاهتمام البالغ بالشأن العام، والمتابعة والرصد لجميع الظواهر والإرهاصات الطافية علي سطح الحياة في مصر من جوانبها المختلفة. ويجمع بينهم وبيننا انهم ونحن وكل مصري مهموم بمستقبل مصر.. وصورة هذا المستقبل والتي اصبحت شاغل العامة والخاصة في ضوء الحراك والتفاعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي نشهده الآن ونعيش تطوراته واحداثه حالياً. هذا الحراك وذلك التفاعل الذي يرتكز في اساسه وجوهره علي الدفعة القوية التي احدثتها عملية الاصلاح الجارية في مصر الآن ومنذ خمس سنوات والتي انطلقت شرارتها بإعلان الرئيس مبارك التاريخي في السادس والعشرين من فبراير 5002، عن التعديلات الدستورية بدءاً بتعديل المادة الخاصة باختيار رئيس الجمهورية كي تصبح ولأول مرة في تاريخ مصر بالانتخاب الحر المباشر بدلا من الاستفتاء الشعبي. وكان من الممكن ان نترك الطرح لموضوع الحوار عاما وفضفاضا حول الرؤية للمستقبل، ولكننا من منطلق الرغبة في ان يكون الحوار أكثر عمقا وأكثر تركيزا وتحديدا اخترنا ان تكون الرؤية للمستقبل موضع الحوار ترتكز وتتمحور حول السؤال موضع الاهتمام من الكل، وموضع الامل والسعي من الجميع، وهو: كيف تصبح مصر دولة مدنية حديثة؟! والأخبار تنشر تباعا رؤي مفكري مصر ومثقفيها ابتداء من الأحد القادم: السيد ياسين ود. جابر عصفور ود. رفعت السعيد ود. صبري الشبراوي وأ. صلاح عيسي ود. منير فخري عبدالنور ود. علي الدين هلال، وأ. لويس جريس ود. مراد وهبة د. حامد عمار، ود. حسام بدراوي، والمهندس حسب الله الكفراوي، ود. فاروق الباز والشاعر عبدالرحمن الابنودي، ود. عاطف العراقي، ود. محمد كمال. وفي هذا الاطار، لابد ان نقول بصراحة كاملة ووضوح تام، ان ما تشهده مصر حاليا من تفاعل نشط وجاد، وتبادل للرأي والرؤية حول جميع القضايا والاطروحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما نشهده من مناقشات هادئة في بعض الاحيان، ساخنة في اغلبها، وملتهبة في بعضها الآخر وما نراه ونعايشه من صدام الافكار وتصادم الاجتهادات والرؤي،...، كلها تأتي انطلاقا من ذلك المناخ الحر والايجابي الذي خلقته وأتاحته تلك الاصلاحات التي بدأت مسيرتها النشطة في نهاية فبراير 5002.
وفي اطار الشفافية الواجبة لابد ان نقول بوضوح، انه ورغم كل محاولات الانكار التي يلجأ لها البعض، وبالرغم من كل الادعاءات التي يروج لها البعض الآخر، فإن مانراه اليوم من اتساع كبير وهائل في مساحة حرية التعبير، علي وجه العموم، وحرية الصحافة علي وجه الخصوص هي ترجمة مباشرة وتطور تلقائي وطبيعي لمناخ الحرية الذي خلقته ودعت اليه وحرضت عليه موجة الإصلاح القوية التي فتح الرئيس مبارك أمامها الباب واسعا في خطابه التاريخي. وقد يري البعض ان هناك تجاوزا شديدا في استخدام أو استغلال حرية التعبير وحرية الصحافة، وان هناك خروجا في هذا الاستخدام وذلك الاستغلال عن جميع القواعد والقيم الأخلاقية والإنسانية في كثيرمن الاحيان،.....، ولكننا مع إقرارنا بحدوث هذه التجاوزات فعلا وواقعا، إلا اننا نري أن ذلك يحسب بالايجاب وليس بالسلب في مسيرة الاصلاح الإجتماعي والسياسي، طالما كان ذلك ناجما عن الاخطاء الطبيعية في الممارسة والتطبيق نتيجة الحماسة الزائدة والاندفاع الانفعالي في ممارسة اكبر قدر من حرية التعبير، حتي ولو أدي ذلك إلي نوع من الانفلات في الممارسة والأداء. ولكن ذلك كله يظل في الاطار السوي والسليم طالما كان مبعثه حسن القصد، وليس سوء الطوية، وطالما كان ينطلق من أجندة مصرية وطنية وقومية خالصة، وليس له صلة علي الاطلاق بأي أجندة تخالف ذلك، سواء كان السبب في ذلك يرجع لعمي البصيرة أو فساد القصد، أو مرض القلب، وغلبة الهوي، التي تورد بأصحابها موارد التهلكة، وتجعلهم مطية لكل طامح أو طامع،...، ينفذون مخططاته، الهادفة للفوضي غير الخلاقة، ويسيئون لانفسهم ولوطنهم، ويدعون في ذات الوقت أنهم يحسنون صنعا.
ولا مبالغة في القول علي الاطلاق، أن كل دعاة التغيير في مصر، يدركون أن هذا التغيير لا يكون ابدا إيجابيا، إلا اذا كان هادفا للإصلاح، أي دافعا للامام، وليس راجعا او مرتدا للخلف، وان ذلك الاخير هو عين التخلف ولا يمكن ان يكون علي الاطلاق بالتغيير الذي يأمله الناس، لتحقيق احلامهم وطموحاتهم في واقع أفضل. وأحسب ان كل دعاة التغيير أيضا يدركون باليقين ان ذلك التغيير الايجابي، لا يمكن ان يتحقق في غياب خطة واضحة وشاملة للاصلاح المجتمعي الشامل الذي يصلح ويطور جميع أوجه الحياة ومناحيها وعلي جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما يتبع ذلك ويتواكب معه من تغيير في البنية الفكرية والثقافية لدي جموع المواطنين بما يتوافق مع ثقافة الاصلاح والتطوير والتحديث. ويدرك كل هؤلاء ان شرارة التغيير ونداءات الاصلاح بدأت تأخذ صورة ملموسة وشكلا واضحا منظما منذ لحظة انطلاقها علي يد الرئيس مبارك في نهاية فبراير 5002، ثم ما تبع ذلك من تحديد واضح لجوانب ومستويات وتفصيلات هذا التغيير وذلك الاصلاح في البرنامج الرئاسي الذي خاض علي أساسه الانتخابات وحصل علي ثقة الشعب، والذي تضمن ليس ملامح وعناوين رئيسة فقط لبرنامج الاصلاح في مصر، بل اشتمل علي جميع الخطوط التفصيلية للانجاز المستهدف، وفقا لتوقيتات زمنية محددة، في اطار السنوات الست التي هي مدة الرئاسة.
ويدرك الجميع ان ذلك لم يأت من الفراغ، وان شرارة التغيير ونداءات الاصلاح، ثم ما تبعها من خطط تنفيذية تجسدت في برنامج انجاز رئاسي واضح ومحدد لم ينبت من فراغ، ويدركون ان ذلك ما كان ممكنا له أن يحدث علي الاطلاق دون ما سبقه من إعداد التربة وتهيئة المناخ، وتأسيس القاعدة اللازمة للإنطلاق منها والبناء عليها. واذا ما اردنا مزيدا من الإيضاح لذلك، نقول انه لم يكن ممكنا علي الاطلاق، ان تنطلق مسيرة الاصلاح الاقتصادي، دون بنية أساسية معقولة وقادرة علي البناء عليها أو التأسيس فوقها، فليس معقولا ولا ممكنا علي الاطلاق، الحديث عن إصلاح وتحديث وتطور اقتصادي في غيبة شبكة مياه للشرب تغطي كل مكان في مصر، وشبكة صرف صحي، وشبكات طرق وكهرباء ووسائل اتصالات تربط مصر بعضها البعض، ومصر والعالم،...، و.... وغير ذلك من البديهيات التي لا يمكن الحديث عن إصلاح او تقدم إقتصادي في غيبة وجودها أو ضعفها. واحسب أننا نقر جميعا بالحقيقة القائلة انه لا وجود لدولة حديثة ومتطورة دون اقتصاد قوي وقادر،...، ولا وجود لاقتصاد سليم وقوي دون منظومة بنكية ومالية، قوية وقادرة، ودون نظام جمركي وضرائبي جيد وفعال، ودون مناخ جاذب للاستثمار، وإقامة المشروعات الانتاجية والخدمية،.....، ودون قدرة علي الانتاج والتصدير. وكل ذلك وغيره كثير تم في مصر خلال السنوات القليلة الماضية، ويتم الآن وهو ما يمثل علي ارض الواقع حقائق لا يمكن انكارها، في مجالات البناء والتشييد، والاسكان، والصحة، والتعليم، والطاقة، والكهرباء، والطرق، والكباري، والمواصلات، والبترول، والتعدين، والصناعة، والتجارة، والمواني والمطارات، ومترو الانفاق، والاتصالات، والمدن الجديدة، والنهوض بالصعيد، وتحويله إلي منطقة واعدة وجاذبة للاستثمار،.....، وما تم من تطوير كبير وملموس في مجال التصنيع.
وكل ذلك، وغيره كثير تم ويتم علي أرض مصر، في الوقت الذي يشن فيه البعض حملة شعواء يدعون فيها غيبة الانجاز، وغياب التحرك للامام، ويلونون فيها كل الصور بالسواد، ويعطون لأنفسهم الحق في نشر الإحباط واليأس في نفوس الكل، وقتل الأمل في عيون الجميع، والشباب بالذات،.....، ويتجاهلون عن عمد ومع سبق الإصرار والترصد ما جري وما يجري، بل ويبذلون غاية الجهد لتشويه جميع الاعمال، والنيل من جميع الرموز. والغريب، والعجيب، في ذلك كله، ان هؤلاء يجدون لديهم القدرة علي الإدعاء بغيبة الحرية، وغياب الديمقراطية، في الوقت الذي يمارسون فيه حرية غير مسبوقة، في القول، والرأي، والنقد، والكتابة، وصلت إلي حد الانفلات التام من وجهة نظر البعض، والخروج عن جميع القيم الأخلاقية والإنسانية، من وجهة نظر البعض الآخر، وتعدت جميع القواعد والحدود من وجهة نظر الكثيرين،.....، والمثير للانتباه في ذلك كله، ان مجرد استمرار هؤلاء فيما هم فيه من قول، وفعل، في جميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة، دون محاسب أو مانع، هو الشهادة الحية علي عدم صحة ما يقولون، وفساد ما يروجون له.
وإذا ما عدنا إلي موضوعنا الرئيسي، وهو حوارات »الأخبار« مع مجموعة المفكرين والمثقفين حول رؤي المستقبل، فإننا نؤكد علي ما ذكرناه منذ البداية، من أنه كان من الممكن أن نترك الطرح لموضوع الحوار عاما وفضفاضا، حول رؤاهم للمستقبل، ولكننا اخترنا ان تتركز وتتمحور تلك الرؤي حول »الدولة المدنية الحديثة« وذلك حتي يكون الحوار أكثر عمقا، وأكثر تركيزا وتحديدا. ولقد جاء ذلك انطلاقا من إيماننا الراسخ بأن السعي لقيام الدولة المدنية الحديثة هو الطريق الصحيح والصائب للنهوض بمصر، وتحقيق التنمية المجتمعية والاقتصادية الشاملة بها، واحتلالها المكانة التي تستحقها بين دول العالم. وفي هذا الإطار فإننا نري ضرورة أن يكون واضحا بالنسبة لنا جميعا أن الإصلاح الحقيقي في وطننا، وصولا إلي الحداثة والتطور والتنمية الشاملة يتحقق ببذل غاية الجهد كي تصبح مصر دولة مدنية حديثة، بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات. ونري ضرورة أن يتعمق في وجدان كل منا إيمان راسخ بقيمة ومفهوم المواطنة، باعتبارها قيمة تتقدم علي كل القيم الأخري في الدولة المدنية الحديثة،..، وان يترسخ في عقول وقلوب الكل بأنهم جميعا، ودون استثناء، مواطنون مصريون، لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات، دون تفرقة أو تمييز بين أحد وآخر، علي أساس عرق أو لون أو دين، فالكل ابناء هذا الوطن، والكل يعمل لصالح تقدمه واستقراره، وأمنه وأمانه. وأحسب أنه من الواجب أن ندرك باليقين أن ما نسعي إليه هو مجتمع متطور لدولة مدنية حديثة، لا مجال فيه لفكر منحرف يخلط الدين بالسياسة، أو السياسة بالدين، ولا مكان فيه للجهل والتعصب أو الطائفية، مجتمع يكون التقدير فيه علي أساس العمل، والعلم، والجهد، والابداع، والابتكار.
وفي هذا الاطار، تبدأ الأخبار، من الأحد القادم، بإذن الله، في نشر الحوار الأول من مجموعة الحوارات حول رؤي مفكري مصر ومثقفيها للمستقبل في اطار مصر دولة مدنية حديثة.