أعظم مادة في الدستور الذي نحن مدعوون للاستفتاء عليه بعد أيام قليلة هي المادة التي لا تحمل رقما.. انها المقدمة التمهيدية لمواد الدستور الذي ينظم الحقوق والواجبات.. وهي ما اتفق علي تسميتها " الديباجة". هذه الديباجة التي يتجاهلها الناس دائما عند الحديث عن الدستور تعتبر دستورا مستقلا بذاته ..معبرا عن نبض الشعب.. مصورا مصر الوطن والشعب والتاريخ في أروع صورة.. يكفي أن تقرأ تلك الديباجة لتقول للدستور "نعم" بكل تأكيد. فماذا تقول الديباجة: "هذا دستورنا".. مصر هبة النيل للمصريين، وهبة المصريين للإنسانية. مصر العربية، بعبقرية موقعها وتاريخها، قلب العالم كله، فهي ملتقي حضاراته وثقافاته، ومفترق طرق مواصلاته البحرية واتصالاته، وهي رأس أفريقيا الُمطل علي المتوسط، ومصب أعظم أنهارها: النيل.. هذه مصر، وطن خالد للمصريين، ورسالة سلام ومحبة لكل الشعوب. في مطلع التاريخ، لاح فجر الضمير الإنساني وتجلي في قلوب أجدادنا العظام، فاتحدت إرادتهم الخيرة، وأسسوا أول دولة مركزية، ضبطت ونظمت حياة المصريين علي ضفاف النيل، وأبدعوا أروع آيات الحضارة، وتطلعت قلوبهم إلي السماء قبل أن تعرف الأرض الأديان السماوية الثلاثة. مصر مهد الدين، وراية مجد الأديان السماوية في أرضها شب كليم الله، وعلي أرضها احتضن المصريون السيدة العذراء ووليدها.. وحين بُعث خاتم المرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، للناس كافة، ليتمم مكارم الأخلاق، انفتحت قلوبنا وعقولنا لنور الإسلام، فكنا خير أجناد الأرض جهادًا في سبيل الله. وفي العصر الحديث، استنارت العقول، وبلغت الإنسانية رشدها، وتقدمت أمم وشعوب علي طريق العلم، رافعة رايات الحرية والمساواة، وأسس محمد علي الدولة المصرية الحديثة، وعمادها جيش وطني ، وقدمنا الشهداء والتضحيات، في العديد من الهبات والانتفاضات والثورات، حتي انتصر جيشنا الوطني للإرادة الشعبية الجارفة في ثورة "25 يناير - 30 يونيو"، التي دعت إلي العيش بحرية وكرامة إنسانية تحت ظلال العدالة الاجتماعية، واستعادت للوطن إرادته المستقلة. هذه الثورة امتداد لمسيرة نضال وطني كان من أبرز رموزه أحمد عرابي، ومصطفي كامل، ومحمد فريد، وتتويج لثورتين عظيمتين في تاريخنا الحديث: ثورة 1919 التي أزاحت الحماية البريطانية عن كاهل مصر والمصريين، وأرست مبدأ المواطنة والمساواة بين أبناء الجماعة الوطنية، وسعي زعيمها سعد زغلول وخليفته مصطفي النحاس علي طريق الديمقراطية، مؤكدين أن "الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة"، ووضع طلعت حرب خلالها حجر الأساس للاقتصاد الوطني. وثورة "23 يوليو 1952" التي قادها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، واحتضنتها الإرادة الشعبية. هذه الثورة امتداد للمسيرة الثورية للوطنية المصرية، وتوكيد للعروة الوثقي بين الشعب المصري وجيشه الوطني، الذي حمل أمانة ومسئولية حماية الوطن، والتي حققنا بفضلها الانتصار في معاركنا الكبري، من دحر العدوان الثلاثي عام 1956 إلي هزيمة الهزيمة بنصر أكتوبر المجيد الذي منح للرئيس أنور السادات مكانة خاصة في تاريخنا القريب. وثورة 25 يناير، 30 يونيو، فريدة بين الثورات الكبري في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية وبمباركة الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية لها. نحن نؤمن أننا قادرون أن نستلهم الماضي وأن نستنهض الحاضر، وأن نشق الطريق إلي المستقبل. قادرون أن ننهض بالوطن وينهض بنا.وأن لكل مواطن الحق بالعيش علي أرض هذا الوطن في أمن وأمان، وأن لكل مواطن حقًا في يومه وفي غده. نحن نؤمن بالديمقراطية طريقًا ومستقبلاً وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمي للسلطة، ونؤكد علي حق الشعب في صنع مستقبله، هو وحده مصدر السلطات، الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن، ولنا ولأجيالنا القادمة - السيادة في وطن سيد. نحن الآن نكتب دستورًا يجسد حلم الأجيال بمجتمع مزدهر متلاحم، ودولة عادلة تحقق طموحات اليوم والغد للفرد والمجتمع، نحن الآن نكتب دستورًا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية. نغلق به الباب أمام أي فساد وأي استبداد. نكتب دستورًا يؤكد أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، والمرجع في تفسيرها هو ما تضمنته مجموع أحكام المحكمة الدستورية في هذا الشأن. نكتب دستورًا يفتح أمامنا طريق المستقبل، ويتسق مع الشرعية الدولية لحقوق الإنسان و يصون حرياتنا، ويحمي الوطن من كل ما يهدده أو يهدد وحدتنا الوطنية. نكتب دستورًا يحقق المساواة بيننا في الحقوق والواجبات دون أي تمييز. نحن المواطنات والمواطنون، نحن الشعب المصري، السيد في الوطن، هذه إرادتنا، وهذا دستور ثورتنا". انتهت المقدمة أو الديباجة وبقي أن نقول نعم لدستور كل المصريين.