كنت أكتب عموداً سياسياً يومياً في عام 1967 في صحيفة "صوت العرب" البغدادية بعنوان "بالعربي الفصيح". وكان عموداً لاذعاً وساخراً سرعان ما شق طريقي بين صحفيين أكفاء ومعروفين في تلك السنوات قبل أكثر من اربعين عاماً. وكانت وزارة الارشاد العراقية التي تغير اسمها فيما بعد الي وزارة الاعلام قد فرضت الرقابة علي جميع الصحف عقب نكبة 5 يونيو 1967. وكنا نرسل مقالاتنا مسبقاً الي الوزارة للموافقة عليها قبل النشر. وفي أحد الايام منع الرقيب مقالي السياسي اليومي الذي يحتل عموداً كاملاً من الصحيفة فاغاظني المنع جداً وقررت الرد عليه بالاسلوب اللبناني. وبما انني كنت مسئولاً عن الصفحة السياسية الثانية فقد تركت مساحة مقالي بطول العمود الاول فارغة من رأسها إلي ما قبل النهاية وكتبت جملة واحدة في أسفل المقال هي: "حرية الكلمة هي المقدمة الأولي للديمقراطية". وهي كلمة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر. ثم كتبت اسمي في نهاية العمود. وفي تلك الايام كانت المطبعة تطبع صفحات الجريدة علي شكل ملازم واحدة بعد الأخري وليس مرة واحدة كما هو الحال اليوم. فطلبت من مدير المطبعة طبع الملزمة الداخلية التي تضم مقالي, وكان ذلك أحد واجباتي اليومية في الصحيفة وأخذت نسخاً منها معي الي المنزل ومازلت احتفظ بها وقد بدا العمود فارغاً من اعلاه الي أسفله وهي ظاهرة لم تكن معروفة في الصحافة العراقية وان كنا نلاحظها في الصحف اللبنانية كالانوار والنهار والمحرر والحياة. وفي اليوم التالي أكتشفت ان صاحب الجريدة وهو محام عربي قومي هاج وماج حين شاهد في المساء الملزمة المذكورة وفيها العمود الفارغ. وطلب من سكرتير تحرير الصحيفة الاستاذ الكبير سجاد الغازي الذي يعرفه الزملاء المخضرمون من الصحفيين المصريين وكان أحد مؤسسي اتحاد الصحفيين العرب وأمينه العام لاكثر من عشر سنوات طلب منه ان يلغي تلك الملزمة ويطبع بديلاً عنها وان يلقي القبض علي ويسلمني إليه حياً أو ميتاً لانال جزائي العادل. والجزاء في تلك الايام لم يكن مثل سجون نوري المالكي الوحشية وانما الفصل من العمل أو قطع راتب بضعة ايام. لكن الرجل لم يعاقبني وانما ضحك وقال انك فعلت ما لم أكن أجرؤ انا صاحب الجريدة علي فعله! وكل هذه القصة التي أرجو ألا تكون مملة هي مقدمة للحديث عن الحريات الاعلامية والصحفية في العراق المحتل. لقد كنا نتحدث في السابق عن ضرورة حرية الرأي والرأي الآخر. لكن العالم تجاوز ذلك منذ سنوات الي حرية الرأي والآراء الاخري وليس الرآي الآخر فقط. فمن يقول للسياسيين الجهلة من حكام العراق اليوم ان علي الحاكم الذي يخاف من حرية الصحافة ان يعتزل وينصرف لفتح مكتب عقارات أو فرن عيش أو مطعم كوارع. فحرية الكلمة هي المقدمة الاولي للديمقراطية وليس حرية سيارات الهمر الامريكية وعمليات بغداد الارهابية والطوارئ والاعتقالات العشوائية كل يوم واغتيالات الصحفيين. علي أي حال ان مشاهد قمع الحريات العامة في العراق صارت مشاهد مكررة ومملة في عهد نوري المالكي الاسود ابتداء من منع المظاهرات المطالبة بتوفير الخدمات العامة والكهرباء واعتقال المتظاهرين بل وقتل بعضهم كما حدث في البصرة، الي منع الموسيقي والغناء في المهرجانات الدولية كمهرجان بابل الي مطاردة الصحفيين واهانتهم وضربهم واغتيال بعضهم في الشوارع حتي صار العراق اخطر دولة يمارس فيها الصحفيون المهنة الي غياب الشفافية في مؤسسات الدولة وحجب المعلومات عن الصحفيين والاعلاميين وصولاً الي إغلاق قناة "البغدادية" في العراق وتدمير ممتلكاتها ومنع منتسبيها من العمل لانها تعارض الاحتلال الامريكي والمحاصصة الطائفية وتنقد سلبيات الحكومة العراقية وتفضح الفساد ولأنها ياللعجب كانت أول فضائية تذيع نبأ احتلال الارهابيين لكنيسة سيدة النجاة في بغداد. حرية الكلمة هي المقدمة الاولي للديمقراطية وغير ذلك مجرد دجل علي الطريقة الفارسية المعروفة وطرشي مشكل علي ذوق المالكي.