سعيد اسماعيل »بذلت مجهودا مضنيا كي أتذكر إن كنت رأيته من قبل وأين.. ولكني فشلت.. وقبل أن أنطق بكلمة جاءني صوته الهادئ العميق.. لاتجهد نفسك.. فأنا أيضا أراك لأول مرة!!« السبت: إذا ألقينا نظرة علي تاريخ الإنسانية.. سنكتشف أنه حافل بنماذج من الرجال والنساء، الذين كانوا يمتلكون القدرة علي رؤية مالا يستطيع غيرهم رؤيته.. ومنهم من يتحدث عن أحداث سوف تحدث بعد أيام قليلة، ومنهم من يصف أحداثا، ويروي تفاصيلها بمنتهي الدقة قبل أن تتحقق بثلاثة قرون!! منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما قابلت رجلا من هؤلاء.. كنت قادما إلي القاهرة من سوهاج بعد رحلة مرهقة، وكان ذلك الرجل يجلس بجانبي علي المقعد المجاور لي في القطار، ولا أعرف لماذا أحسست نحوه منذ الوهلة الأولي باحساس غريب، كأن تيارا كهربائيا ضعيفا مسني، فحاولت الانشغال عنه بالنظر من خلال النافذة، لكن الظلام الدامس في الخارج جعلني أري خياله في زجاجها الذي بدا كمرآة، فأسندت رأسي إلي ظهر المقعد محاولا النوم.. خفف القطار من سرعته قبل الدخول إلي محطة أسيوط، فاعتدلت في جلستي، وأخرجت علبة سجائري، ووضعت سيجارة بين شفتي.. وقبل أن أخرج الكبريت من جيبي، أشعل الرجل ولاعته وقربها نحوي.. فانحنيت قليلا إلي الأمام بعد لحظة تردد وأشعلت السيجارة.. مرت دقائق شغلت نفسي خلالها بمتابعة حلقات دخان السيجارة وهو يتصاعد ليتلاشي في الهواء.. وسرعان ما بدأت العجلات تهدأ بالتدريج حتي توقفت.. ونزل ركاب، وصعد آخرون، ثم أطلق القطار صفارته وبدأ يتحرك تاركا المحطة، ثم المدينة كلها خلفه، ولم تلبث العجلات أن استعادت سرعتها بأقصي طاقتها.. وبكي طفل أفزعه ضجيج قطار مضي كالسهم في الاتجاه المعاكس، وعلا شخير رجل سمين علي مقعد مجاور، وقد انحنت رأسه إلي الأمام.. واستغرق أكثر الركاب في الصمت، أما الرجل الجالس بجانبي فكان من وقت إلي آخر ينظر نحوي، أو هكذا أحسست، رغم حرصي الشديد علي تجنب النظر ناحيته. فجأة جاءني صوته هادئا عميقا كأنه يتكلم من بطنه: - اسمي رشاد.. وصمت لحظة، التقت عيناي خلالها بعينيه، ثم قال: - رشاد عبدالسلام.. وانت فلان.. وأمك فلانة!! دهشت، فقد كان الاسمان صحيحين.. ونظرت إليه مليا.. قطعا لم أكن قد رأيته من قبل.. لكن ما كان في عينيه أكثر غرابة.. بريق غامض يتدفق كأنه اشعاع مغناطيسي.. أما الوجه فأسمر نحيف، مغضن عند الجبهة والوجنتين.. والأنف طويل مدبب، وشعر الذقن نابت في غير انتظام، والشفتان غليظتان مزمومتان.. بذلت مجهودا مضنيا في محاولة تذكر إن كنت رأيته من قبل وأين.. ولكني فشلت.. وقبل أن أنطق بكلمة جاءني صوته الهادئ العميق مرة أخري: - لا تجهد نفسك.. فأنا أيضا أراك لأول مرة، ولكني أعرف كل شئ عنك وعن كثيرين غيرك.. كل من تراهم هنا حولك داخل هذه العربة، حتي هذا الرجل الذي لا يكف عن الشخير.. وحدثني عن الأمراض التي تعرضت لها في طفولتي، وذكر لي اسماء المدارس التي تعلمت فيها، والأحياء التي سكنتها، والمدن التي زرتها، والدول التي سافرت إليها.. وذكر لي اسم والدي، واسماء إخوتي الذين ماتوا والذين لايزالون علي قيد الحياة، ثم انتقل بعد ذلك إلي أهم ما سأصادفه في المستقبل.. ثم توقف لحظة عن الكلام، وأرسل بصره إلي سقف العربة وقال: - هذا القطار سوف يتوقف قبل محطة المنيا بحوالي عشرين كيلو ثلاث ساعات كاملة، لان عربة قطار بضاعة يسير أمامنا سوف تخرج عن القضبان وتنقلب.. ربنا يستر!! لم أجد ما أقوله، فاكتفيت بالنظر إليه، وإذا به يدفع ظهر مقعده إلي الخلف، ويستند عليه برأسه، ويستغرق في النوم وتركني غارقا في الدهشة والحيرة والخوف أيضا.. بدأ القطار يخفف من سرعته فاستبد بي القلق.. وأشعلت سيجارة، ثم سيجارة.. وتمهل القطار، ثم توقف تماما فأسرعت دقات قلبي.. هل صدق الرجل؟! وساد صمت، وساور القلق الركاب، وراحوا يتساءلون عن السبب، ولكن لا جواب.. وبعد قليل ظهر فراش العربة فأحاطت به كل العيون والآذان، ولما سأله أحدهم عن سبب توقف القطار، قال إن المعاون ومساعده نزلا للاستفسار من السائق.. وانقضي نصف ساعة كأنه نصف قرن، قبل أن يظهر الفراش مرة أخري ليقول أن عربة قطار بضاعة يسير أمامنا قد انقلبت، وأن قطارنا لن يستأنف سيره قبل أن يجيء ونش من المنيا لرفعها!! وكان لابد أن تمضي الساعات الثلاث بالتمام، ليتمكن قطارنا من السير بعد أن تمكن رجال الإنقاذ من إزاحة العربة المقلوبة عن القضبان!! أشهر العرافين.. وإذا اتفقنا الآن علي ان نسمي أمثال أخينا رشاد عرافين فإن أقدر أولئك العرافين الذي لمع اسمه في أوروبا والعالم هو »ميشيل نوسترا داموس« الذي تحدث عنه الكاتب والفيلسوف الانجليزي »كولن ويلسون« في الدراسة القيمة التي قام بها مؤخرا عن الإنسان وقدراته المتفوقة.. »وميشيل نوسترا داموس« كان إنسانا عاديا، لا يختلف عن غيره من أبناء عصره. ولد في »سانت ريمي« في فرنسا عام 2051 ميلادية، من أبوين مسيحيين من أصل يهودي.. وتعلم في صغره اللغات اللاتينية، واليونانية، والعبرية.. وعندما أصبح شابا إلتحق بجامعة »مونبيليه« لدراسة الطب.. وما أن استكمل دراسته الجامعية، حتي وجد نفسه منغمسا في مقاومة وباء الطاعون مقاطعة »بروفانش«.. كان يعمل لساعات طويلة دون كلل.. وظل يتنقل بين القري والمدن التي ضربها الوباء طوال المدة بين سنتي 5251، 9251.. وعندما عاد بعد ذلك إلي مدينة »مونبيليه«، تفرغ لممارسة الطب، وقام بتدريسه في جامعتها لبضع سنوات.. ثم شرع مرة أخري في التنقل والسفر المستمر حتي استقر في مدينة »آجين« حيث تزوج من فتاة أنجب منها طفلين.. وإزدهر عمل »نوسترا داموس« كطبيب، وذاع صيته، وعرف بحبه لعمله وبعده عن الأضواء، وميله الشديد إلي التواضع.. لكن وباء الطاعون عاد مرة أخري، وكانت زوجته وطفلاه بين ضحايا ذلك الوباء اللعين هذه المرة.. فلجأ إلي السفر من جديد، ليقضي ثماني سنوات لم يعرف خلالها الاستقرار في مدينة واحدة لأكثر من شهر.. وأثناء تجواله هذا، اكتشف في نفسه القدرة علي استبصار الأحداث قبل أن تقع.. فكان يشعر في بعض اللحظات أنه يمتلك حاسة متفوقة، تمكنه من التوغل في المستقبل بسهولة غريبة.. وكانت تلك اللحظات خاطفة كالوميض في البداية، ثم لم يلبث أن استطاع استدعاء هذه الحاسة حين يريد!! وحدث أن »نوسترا داموس« شاهد اثناء تجواله في ايطاليا، شابا يدعي »فيلكس بيرتي«، يرعي بعض الخنازير.. فما كان منه إلا ان ركع علي ركبتيه أمام ذلك الشاب، وناداه قائلا: »قداستك«.. وقد أصبح راعي الخنازير هذا فيما بعد قداسة البابا »سيكتس الخامس«!! وفي عام 7451 ميلادية، قرر »نوسترا داموس« أن يستقر في مدينة »سالون« فتزوج من أرملة، واشتري منزلا، وأمضي ما تبقي من عمره في تلك المدينة يمارس الطب، ويكتب »نبوءاته«.. وكان حريصا علي أن يؤكد أنه ليس دارسا لعلوم الغيب.. وبعد ثماني سنوات من الاستقرار في »سالون«، نشر الطبعة الأولي من كتابه »قرون« الذي صاغ فيه نبوءاته في مقاطع صغيرة، كل منها أربعة أسطر فقط، تميزت جميعها بالغموض والرمزية.. ويبدو أنه تعمد ذلك حتي لا يتهمه أحد بممارسة السحر، خاصة أن بعض المقاطع كان يتنبأ فيها بصعود أو سقوط ملوك وبابوات.. لقاء مع ملكة فرنسا! عندما سمعت »كاترين دي ميديتش«، زوجة هنري الثاني ملك فرنسا، بقدرة نوسترا داموس علي التنبؤ، استدعته إلي قصرها، وأخبرته ان عرافا تنبأ منذ عدة أعوام بموت الملك اثناء مبارزة، وانها تريد منه أن يخبرها إذا كان ذلك سيحدث.. وعندئذ ردد علي مسامعها أحد مقاطع كتابه »قرون«، الذي كانت كلماته تقول: »الأسد الشاب سيغلب العجوز في قتال فردي.. وفي قفص من الذهب سيفقأ عينه فيصبح الجرحان جرحا واحدا.. ثم يموت ميتة قاسية«.. وبعد خمس سنوات علي هذه المقابلة مع الملكة.. تزوجت ابنتاها.. إحداهما من »فيليب« عاهل اسبانيا، والثانية تزوجها »دوق ساخوي«.. واشترك الملك هنري في المبارزات الودية التي جرت ضمن احتفالات الزفاف.. وبينما كان الملك يتصادم بالرمح مع شاب يدعي »جابرييل«، انكسر رمحه، واخترقت احدي الشظايا القفص الذهبي الذي كان الملك يحمي به وجهه، فانفقأت عينه، ونفذت الشظية إلي المخ لتحدث جرحين متصلين، ومات الملك بعد عشرة أيام عاني خلالها من آلام رهيبة، قبل أن يموت ميتة قاسية!! وكان لهذا الحادث أكبر الأثر علي الملكة »كاترين« نفسها، فواظبت علي استشارة نوسترا داموس في كل ما يتعلق بمستقبلها.. وكانت المفاجأة التي أذهلت الملكة هي ما وجدته متعلقا بها في أحد مقاطع كتاب »قرون« الذي جاء فيه بالحرف: »ستبقي السيدة لكي تحكم بمفردها بعد موت قرينها الفذ علي ساحة الشرف. وبعد حدادها سبع سنوات ستعيش وتحكم عهدا طويلا«.. وكل الذين عاشوا بالقرب من الملكة »كاترين دي ميديتش«، والذين تتبعوا تاريخها، يعرفون ان كل ما قاله نوسترا داموس لها، وكتبه عنها قد تحقق بحذافيره.. فقد ظلت »كاترين« في حداد علي زوجها »هنري الثاني«.. لمدة سنوات، وعاشت وحكمت طوال ثلاثين سنة أخري.. أو أنها علي الأقل لعبت دورا بالغ الأهمية في شئون فرنسا، فابنها »فرانسيس الثاني« الذي خلف والده علي عرش فرنسا، ظل معتل الصحة، دائم المرض، حتي مات في الثانية عشرة من عمره بعد اصابته بتسمم الدم.. وابنها الثاني »تشارلس التاسع«، كان في العاشرة من عمره عندما جلس علي عرش فرنسا، فحكمت »كاترين« البلاد حتي كبر.. وقد اختلف الباحثون في تفسير نبوءات »نوسترا دامواس« التي جاءت في كتابه قرون.. ولاشك ان بعض مقاطع ذلك الكتاب، قد آثار قدرا كبيرا من الدهشة لاقترابه من بعض المسائل التفصيلية الدقيقة التي يصعب ان تلفت النظر لحظة حدوثها، أو في مكان وقوعها وزمانه.. خاصة انه قد تحدث عن أحداث قبل أن تقع بثلاثة قرون كاملة، في نفس الأماكن، ضئيلة الشأن، التي ستقع فيها.. ومن ذلك المقطع الذي قال فيه: »أن زوجين ملكيين يأتيان من طرق ملتفة وعرة، عبر غابة »رينز«، ويتوقفان عند صخرة »هيرن« البيضاء، ثم يدخلان قرية »فارين«، قبل ان يسقط الرأس، وتثور العواصف، وتشب النار، وتسيل الدماء، وتنقطع الأطراف والرؤوس«. في هذا المقطع كان »»نوسترا داموس« يتحدث عن الملك »لويس السادس عشر« وزوجته الملكة »ماري انطوانيت«، اثناء رحلتهما المشؤومة في محاولتهما الهرب من فرنسا بعد الثورة، فيعبران غابة »رينز«، ويتوقفان عند تل »هيرن« الصخري الأبيض، ويدخلان قرية »فارين« حيث يلقي القبض عليهما، بسبب خيانة الكونت »دي ناربون« الذي وشي بهما!! وبعد اعتقال الملك والملكة، ينفجر حكم الإرهاب والفوضي، الذي يقتلان خلاله بالمقصلة، ويقتل أيضا المئات بقطع الرؤوس والأطراف!! »وللحديث بقية«