.. واضطر القاضي للحكم علي »اليستر كراولي« بالنفي إلي جزيرة صقلية، لأن البوليس لم يقدم إلي المحكمة دليلا ماديا واحدا علي انه من أكلة لحوم البشر!! السبت: كان الشاعر الانجليزي »اليستر كراولي« رقيق الحس، خصب الخيال.. وكان في بداية شبابه مثل والده القس الورع في احدي كنائس الطائفة الانجيلية، الا ان السحر استهواه فدرسه ومارسه، وحقق كساحر شهرة واسعة فاقت شهرته كشاعر، وذاع صيته في معظم أنحاء أوروبا. ويقول فريق من الدارسين لتاريخ السحر والسحرة، ان »كراولي« كان في البداية باحثا مخلصا عن الحقيقة فيما وراء العالم المادي المحسوس، ثم شغف بالجوانب الروحية فسافر إلي الهند والتبت، حيث قام بدراسة علوم الغيب وفلسفته، وفنون السحر وأسراره.. وبعد عودته إلي انجلترا شاعت حوله اقاويل مختلفة، منها انه استدرج عددا كبيرا من النساء والفتيات، واشركهن في ممارسات جنسية شاذة بشكل جماعي، وانه كان يقيم لهن حفلات قداس أسود، يأكل الجميع خلالها لحم البشر، وهم يرقصون بشكل هستيري.. ونشرت الصحف تفاصيل ما يجري في تلك الحفلات الصاخبة، ووصفت »كراولي« بانه »ملك الدعارة والفجور«.. و»أقذر أوغاد الدنيا علي الإطلاق«.. و»الوحش آكل لحوم البشر«.. مما هيج الرأي العام ضده، ودفع البوليس إلي القاء القبض عليه، وتقديمه إلي المحاكمة.. ولو كان البوليس قدم دليلا ماديا واحدا إلي المحكمة علي انه من أكلة لحوم البشر، لما تردد القاضي في ادانته بتهمة القتل، وأصدر الحكم باعدامه، ولكنه اضطر إلي الاكتفاء بالحكم بنفيه إلي جزيرة صقلية، ارضاء للرأي العام الذي اثارته بشاعة الشائعات التي احاطه اعداؤه بها، فضلا عن ان المحكمة لم تصدر أية أحكام ضد أي من أعوانه واتباعه.. ويقال ان »كراولي« قد قضي بقية عمره في فقر مدقع، ويقال أيضا انه أقام في منفاه معبدا لممارسة طقوسه، وجمع حوله عددا كبيرا من الاتباع والمريدين، وأن بوليس صقلية تصدي له وطرده من الجزيرة، الا ان اتباعه من الرجال والنساء ظلوا يترددون علي المعبد لممارسة طقوسه السحرية.. لقدكان »كراولي« ساحرا وعرافا، عاش ومات في النصف الأول من القرن العشرين، وكان متفوقا كغيره من العرافين الذين عاشوا قبله وبعده.. ويقول الذين تتبعوا تاريخه انهم لم يجدوا فيما كتب عنه ما ينفي عنه ما أشيع حوله من اتهامات بشعة، إلا انهم يتصورون انه اعتقد ان انغماس الانسان في الجنس يعيد إليه فطرته، فيستعيد بذلك القدرات والملكات البدائية، التي كانت تمكنه من الرؤية أعمق، والسمع أبعد، والاحساس بالخطر قبل وقوعه.. تلك القدرات التي تراجعت، أو خمدت، أو ضمرت، بعد ان أهملها الانسان حين عرف الزراعة والصناعة، وترك الحياة في الغابات والبراري والكهوف وأصبح متحضرا يعيش في القرية والمدينة. واستنادا إلي هذا التصور يمكن القول ان الانغماس في الجنس لم يكن في حد ذاته غاية »كراولي«، بقدر ما كان وسيلته لإيقاظ قدراته المتفوقة الكامنة في أعماق نفسه، والتي مكنته من ان يصبح ساحرا مقتدرا، عارفا بخفايا الماضي والمستقبل!! الغيب شيء آخر! لقد أحرز إنسان العصر الحديث تقدما هائلا في مجالات العلم المختلفة، وأصبحت لديه الأجهزة الدقيقة التي تمكنه من معرفة مواعيد سقوط الأمطار، وهبوب العواصف والأعاصير قبل حدوثها، ورؤية وسماع ما يحدث علي مسافات هائلة، ورصد حركة النجوم، والتنبؤ بالخسوف والكسوف، وتسجيل ما يجري علي كواكب اخري مثل القمر والمريخ والزهرة، بالصوت والصورة. كل ذلك كان »مجهولا« ومن الخطأ أن نسميه »غيبا«.. فما هو إذن »الغيب«؟.. قبل الاجابة لابد أن نشير إلي أن علماء النفس يقسمون العقل الإنساني إلي قسمين.. الأول يسمونه »العقل الواعي«، أو »الوعي«، أو »الشعور«.. والثاني يسمونه »العقل الباطن«، أو »اللا وعي«، أو »اللا شعور«.. ويقولون ان »العقل الواعي« يعتمد علي الحواس الخمس العادية - السمع، والبصر، والشم، والتذوق، واللمس- في الحصول علي المعلومات لكي يدرك، ويتصور، ويميز، ويتذكر، ويستوعب، ويتفهم، ويفكر، ويقدر.. أما »العقل الباطن« فهو مختلف تماما، لأنه يتعامل بحواس أخري ذات قدرات متفوقة.. وهو قادر علي التقاط ما يصل إليه عن طريق هذه الحواس.. واختزانه علي شكل رموز، ومجال نشاطه هو الكون بكل ما فيه.. حيث لازمن.. وحيث الماضي والمستقبل علي خط واحد متصل.. وحيث البداية، والنهاية، والوسط، وفوق، وتحت، وداخل، وخارج، وحول، يمكن التجول بينها ولمسها!! وبعض الناس -في كل زمان ومكان- كان في وسعهم السيطرة بعقلهم الواعي علي حواسهم المتفوقة، مثل الحدس، والبصيرة، والحواس السادسة، والسابعة، والثامنة، والتاسعة.. وحواس كثيرة اخري.. وهي الحواس غير العادية التي تجعل العقل الإنساني يتفوق علي الرادار، والاقمار الصناعية، والحواسب الالكترونية، وسائر الأجهزة التي سيتم التوصل إلي صنعها في المستقبل لاستخدامها في مجالات الرؤية، والرصد، والفحص، والقياس والحساب. ويقول العالم والطبيب النفسي السويسري الأصل »كارل جوستاف يونج« الذي كان تلميذا، ثم زميلا، للعالم المعروف »فرويد«، ان العقل الباطن يستطيع معرفة الاجابة عن أي سؤال، لكن الإنسان لا يستطيع ادراك هذه الاجابة، أو الافصاح عنها الا إذا انتقلت من »عقله الباطن« إلي »عقله الواعي«.. وهذا لا يحدث الا بالصدفة. وهذا الافتراض الذي توصل إليه »يونج«، أصبح فيما بعد الأساس الذي يقوم عليه تفسير كل أعمال التنبؤ والعرافة، الا ان الباحثين المعاصرين، أجمعوا علي أن الإنسان يستطيع تدريب »عقله الواعي« علي التقاط رموز المعلومات المختزنة في »عقله الباطن« وادراك معانيها، ولكن بعد ان يتمكن من تدريب نفسه علي الانفصال عن الواقع المادي المحيط به، والانسلاخ عن ما حوله.. وعندئذ يصبح قادرا علي الغوص في أعماق ذاته المظلمة لمعرفة ما تنطوي عليه.. أو بعبارة أخري يصبح قادرا علي القيام بعملية »التأمل الداخلي«. ولابد لنا ان نتساءل الآن.. »ما هو الغيب؟« لنعرف الاجابة التي اجمع عليها معظم العلماء.. فماذا قالوا؟. قالوا ان »الغيب« شيء آخر غير »المجهول« الذي حدث، أو يحدث الآن خارج نطاق حواسنا العادية. وقالوا أيضا ان »الغيب« شيء آخر غير »المجهول« الذي تنطوي عليه صدور غيرنا وسرائرهم.. ومن الخطأ الفادح الخلط بين »الغيب« و»المجهول«، لان »الغيب« لا يعلمه إلا الله وحده علام الغيوب. وهناك نماذج كثيرة من العرافين الذين كان في وسع كل منهم اخضاع المجهول الذي يختزنه في »عقله الباطن« لسيطرة عقله الواعي.. وكان بعضهم يتمكن من ذلك في بعض الأوقات.. وبعضهم الآخر كان يستطيع حين يشاء!! عرافون مشهورون! من أشهر العرافين الذين سيظل التاريخ يحتفظ بأسمائهم في ذاكرته، »مايستر تيوربل« الذي عاش في بروسيا في القرن السادس عشر.. لقد أعلن ذلك العراف ان عام 9871 سيكون عام تغييرات بارزة، وأحداث جسام، وانقلابات في النظم والقوانين.. وقال ان ذلك سوف يستمر خمسا وعشرين سنة. وبعد أكثر من مائتين وخسمين عاما تحقق كل ما قاله »مايستر تيوربل« حين اندلعت الثورة الفرنسية بأحداثها الجسيمة، وحدثت تغييرات هائلة في النظم السياسية والاجتماعية.. وانتهت تلك الفترة بسقوط نابليون عام 4181، أي بعد خمس وعشرين سنة تماما!!
عراف آخر انجليزي اسمه »لوك جوريك«.. قال لملكة فرنسا »كاترين دي ميديتشي«، ان زوجها »هنري الثاني« سيموت في مبارزة، وحدث ذلك بعد 44 سنة!!.. وأخبر جيوفاني دي ميديتشي بانه سيكون »بابا«، وأصبح »جيوفاني« بعد ذلك هو البابا »ليو العاشر«!!.. وأخبر رئيس أساقفة كاتدرائية »سانت اندروز« في اسكتلندا، انه سيموت علي مشنقة، وان جماعة من البروتوستانت المتعصبين سيقومون بذلك، وحدث بالفعل ان البروتوستانت قاموا بشنقه!!.. وأخبر »بونتيفو جليو« طاغية بولونيا، انه سيموت في المنفي، فغضب الطاغية وأمر بتعليقه علي آلة التعذيب، لكن حدث بعد ذلك ان الطاغية دخل السجن بأمر البابا »يوليوس الثاني«، ثم نفي ومات في منفاه!!
ومن العرافين الذين ذاعت شهرتهم أيضا في العالم بأسره »ميشيل نوسترا داموس«، الذي ولد في فرنسا عام 3051، وتعلم اللغات اليونانية، واللاتينية، والعبرية، ثم درس الطب في جامعة »مونتبلييه« وأصبح طبيبا ماهرا، لكن استهواه السحر بعد ذلك فعكف علي دراسته، وكتب عددا من النبوءات في شكل مقاطع منفصلة لا يزيد كل منها علي بضعة سطور، وطبعها في كتاب اسماه »قرون«، كان له دوي هائل اثناء حياته وبعد مماته. ومن أشهر نبوءات »نوستراداموس« ذلك المقطع الذي قال فيه: »سيأتي زوجان ملكيان من طرق وعرة عبر غابة »رينز«، ويتوقفان عند صخرة »هيرن« البيضاء، ثم يدخلان قرية »فارين«، قبل ان يسقط الرأس، وتثور العواصف، وتشب النار، وتسيل الدماء، وتنقطع الأطراف والرؤوس..« وبعد أكثر من 052 سنة قامت الثورة الفرنسية، وهرب الملك »لويس السادس عشر« وزوجته الملكة »ماري انطوانيت«.. وعبرا غابة »رينز«، وتوقفا عند تل »هيرن« الصخري الأبيض، أمام حاجز أقامه الثوار.. ولم يكتشف الثوار شخصيتهما، وسمحوا لهما بالعبور ليدخلا قرية »فارين«.. حيث تم القاء القبض عليهما بسبب وشاية الكونت »دي ناربون« الذي كان احد وزراء الملك، ومتواطئا في نفس الوقت مع الثوار، وسيقا إلي المقصلة وتم اعدامهما بعد ان عمت الفوضي، وغرقت فرنسا في الدماء، وطارت الرؤوس، وبترت مئات الأطراف. كان مذهلا ان يتنبأ »نوستراداموس« بكل ذلك قبل ان يحدث بأكثر من 052 سنة.. وكانت له نبوءات اخري بصعود ملوك وبابوات، وانتشار أوبئة ومجاعات، تحققت جميعا علي نحو مذهل.. أما المقطع الخاص بطريقة موته هو شخصيا، فكان من أدق وأغرب المقاطع التي وردت في كتابه.. انه يقول بالحرف: »بعد عودته من سفارته، سيعثر عليه أقرباؤه وأصدقاؤه بالقرب من سريره.. أما هو فسيكون في طريقه إلي الله«. وبعد أكثر من عشرين سنة من كتابته لهذه النبوءة، أوفده أهل مدينته »سالون« في مهمة إلي مدينة »آرليه«.. وعلي اثر عودته ذهب بعض أقاربه وأصدقائه إلي منزله الذي كان يعيش فيه بمفرده، للاطمئنان عليه.. ولما لم يرد عليهم عندما دقوا بابه، كسروه ليجدوه ميتا علي الأرض في غرفة نومه بالقرب من سريره!!
لقد شهد القرن السادس عشر كثيرين من العرافين، غير »تيوربل«، و»جوربك«، و»نوستراداموس«، من الذين لا يمكن الشك في قدراتهم علي التنبؤ بما سيقع في المستقبل، لانهم كانوا يذكرون تفاصيل دقيقة لأحداث قبل ان تقع، ثم تقع بعد ذلك، وكأنهم كانوا يشاهدونها بأعينهم مما جعل الباحثين يعتبرون القرن السادس عشر العصر الذهبي لازدهار السحر والعرافة في أوروبا.. وليس معني هذا ان فنون السحر والقدرة علي معرفة »المجهول« قد تدهورت، فلا يزال هناك عدد كبير من السحرة والعرافين في بقاع مختلفة من العالم.. وبعضهم موجود ومعروف في الهند، وكوريا، والفلبين، وأمريكا الجنوبية، وانجلترا، وفرنسا، وروسيا، والمغرب، والسودان، وعدد من دول وسط افريقيا.. وفي مصر أيضا!!