لم يكن من قبيل الاسترزاق السياسي أن يقول الزعيم الراحل مصطفي كامل: »لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا« ولم يكن من باب اللعب علي الأحبال وشغل الثلاث ورقات أن يقول عبدالله بن عمرو بن العاص: »من أراد ان ينظر إلي الفردوس فلينظر إلي أرض مصر«، بل كان حباً وإخلاصا لمصر، وإدراكاً لتاريخها ومكانة أهلها الذين حباهم الله بعظيم النعم وكريم الصفات والشيم، وقد نكأ الشيخ محمد العريفي الجراح في قلوبنا بخطبته عن فضائل مصر، حيث جاءت في وقت انشغلت فيه النخبة السياسية بالتلاسن والصراع ليزداد الوطن ضعفا علي ضعف، ويعمق الإحساس بالجراح معتقل التعليم الجامعي وما قبله من مراحل، والذي تجاهل تدريس كتب مثل: »الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة« لابن ظهيرة وهو من علماء القرن التاسع الهجري، وكتاب »فضائل مصر المحروسة« لعمر بن محمد بن يوسف الشهير بابن الكندي، من علماء القرن الرابع الهجري، فضلا عن خطط المقريزي في هذا الشأن وكأنها كتب محظورة بمناهجنا التعليمية. ويبلغ الألم منتهاه بأن يؤكد أبناؤنا الجامعيون أنهم لم يعرفوا هذا القدر العظيم لمصر إلا من خطبة الشيخ العريفي، في حين صدعت مناهج التاريخ رؤوسهم بصراعات الملوك والحكام ونزاعاتهم الدموية علي السلطة كما يفعل النخبويون في عصرنا الحاضر، وأغفلت الجانب الشعبي في تاريخ الوطن الذي يبرز جوهر الشخصية المصرية وسماتها الأصيلة الخالدة عبر التاريخ لقول سفيان بن عيينة عن مصر: »تلك كنانة الله يحمل فيها خير سهامه«. باب الذل والانكسار! حالة الاستعلاء والتهكم والتهجم علي مرتكبي المعاصي التي يقترفها عوام الناس من مدعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن نمر عليها مرور الكرام حتي تتحول لظاهرة تأكل الأخضر واليابس، فلدينا من العلماء والدعاة ما يغنينا عن هؤلاء المفتئتين علي شرع الله وعلي أولياء الأمور، والمواطن البسيط يدرك أن ما يفعله هؤلاء الأدعياء ليس من الدين في شئ، ولا يمت بصلة من قريب أو بعيد بآداب الدعوة الاسلامية التي تؤكد انه ربَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت غروراً واستكباراً وفي هذا المعني يقول العارف بالله الامام الجنيد: »طرقت الأبواب كلها للتقرب إلي الله فما دخلت إلا من باب الذل والانكسار«. فالداعية ليس فظا غليظ القلب و لا يعقل ان يكون سبابا ولعانا بل هو عف اللسان، وبرد وسلام ورحمة علي من يدعوهم إلي الله اقتداء بسيده وسيد الخلق سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ويحضرني موقف للداعية المصري المتصوف ابن دقيق العيد حين مر علي أناس يفرحون ويسرون بارتكاب المعاصي، قال له أحد مريديه الذين يسيرون معه: »ادعو عليهم حتي يخلصنا الله من سفههم« فقال ابن دقيق العيد: »اللهم اهدهم واجعلهم من أهل الفرح والسرور في الآخرة«. دواء الحبيب كي تصفو نفسك، ويطهر قلبك من أدران الدنيا، وتداعيات صراعاتها الزائفة التي تصيبك بالهم والحزن، وصف لك الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم الدواء بقوله: »إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله و أن تحمدهم علي رزق الله، وان تذمهم علي مالم يؤتك الله.. إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كره كاره، إن الله بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط«.