لنتأمل اليوم فى بعض حكم ابن عطاء الله السكندرى (658- 709ه)، ففى كلماته العميقة كشف للحقائق الدقيقة، ونور للبصائر المتوجهة إليه، وغذاء للأرواح العاشقة لجلال وجهه، يقول السكندرى: «ما قادك شىء مثل الوهم»، وهذه حقيقة واضحة إذا تأملت فيما يحرك البشر من حولك، فمن اليسير أن ترى الوهم الذى يقود معظم الخلائق، والطمع الذى يملأ نفوسهم، وتعلقهم بمغريات الحياة، بينما الوهم الواقع أنت فيه حتى أذنيك، فقد يغيب عنك، ويصعب عليك إدراكه! فقلما يخلو الناس من عبادة الأوهام، ومعنى الحرية الإنسانية لا يكتمل حتى نتخلص من الأوهام المسيطرة على كثير من العقول والقلوب والنفوس والأرواح! ويقول ابن عطاء الله: «وربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك»، فالأوهام قد تقودك للتعلق بالأشياء، فتطلبها من المولى عز وجل، ولكنه يمنعها عنك، فيكون هذا المنع هو ذاته عين العطاء! فأنت لا تعلم أين الخير؟ ولا تعلم أين الشر؟ ومن ثم فقد تطلب الشر لنفسك، وأنت تجهل حقيقته، فإذا أعطاه لك يكون فى الحقيقة قد منعك عن الخير، وأنت لا تعلم، فالمنع من الله إحسان! أما ما يؤلمك فى المنع، فهو عدم فهمك لحكمة الله فيه، ولذلك يقول الشيخ: «متى فتح لك باب الفهم فى المنع، عاد المنع عين العطاء». وفى حكمة بالغة يقول قطب العارفين: «ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب فكان سببا فى الوصول»، فالطاعات جميعا مرهونة بقبول الحق سبحانه لها، ومن دواعى القبول إخلاص النية لله فى العمل، وهذا الإخلاص فى الطاعات، هو الذى يذكى النفوس، وينير العقول، ويطهر الأرواح.. فكم من أعمال للبشر مشوبة بالرياء والادعاء والاستكبار، بينما الذنب وكل ابن آدم خطاء- قد يكون سببا فى كراهية المعاصى، والتقرب إلى الله بعمل الصالحات، ومن ثم قد يقودك ذنبك إلى القرب من المحبوب! ولذلك يقول ابن عطاء الله: «معصية أورثت ذلا وافتقارا، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا». وهذه هى الحقيقة الأهم فى موضوع طاعة الله عز وجل، والغائبة عن كثير من الناس، فالطاعات جميعا لا تقدم شيئا -على الإطلاق- إلى العزيز الحكيم، ومن ثم فمن زادته الطاعات عزا واستكبارا، فقد قضت عليه من حيث لا يدرى، ومن أورثته المعاصى ذلا وافتقارا للحى القيوم، فقد يسرت له السبيل إلى إدراك حقيقة موقعه فى هذا الوجود المعجز. فمقام العبودية، هو مقامنا جميعا، سواء أدركنا هذه الحقيقة، أو لم ندركها، وسواء وفينا العبودية حقها، أو لم نوفها حقها. ومن ثم يقول شيخنا البصير: «الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل؟ والعاقل ينظر ماذا يفعل الله به؟ «إذ إن العبد العاقل يُدرك مغزى قول الحق سبحانه: «ليس لك من الأمر شىء» (آل عمران: 128).