أين الحكومة؟ هل اعترفت بعجزها وتخلت عن واجبها نحو المواطن وسلمته لمن يستطيع ان يملأ الفراغ من الأحزاب أو المجتمع الأهلي؟ غداً تحل الذكري الثانية لثورة يناير العظيمة، البعض منا يريد تحويل الذكري الي أفراح واحتفالات، وبعضنا الآخر يريد تحويل الذكري الي مآتم وتعاز. في الذكري الثانية للثورة مازال بعضنا يمزق بعضنا الآخر في وقت نحن أحوج ما نكون الي التوافق والتعاضد. ويأتي بصيص من ضوء حين يقرر حزب الحرية والعدالة الاحتفال بنجاح الثورة عن طريق حملة "مصر يا أُم.. ولادك اهُم". لتجوب ربوع مصر بالعمل التطوعي والخيري الذي يمتد شهراً كاملاً بقوافل العلاج وتوزيع الدواء، ومشروعات ترميم المدارس حسبما ذكر المسؤولون الإعلاميون لحزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين. من المؤكد ان أهل مصر يحتاجون بالفعل الي مثل هذه الرعاية التي تقيم أودهم في ظل موجة طاحنة من الغلاء تدهم أي دخل ضعيفاً كان أو متوسطاً، أو حتي فوق المتوسط. ولست من أنصار فريق اللدد في الخصومة الذي يهيل التراب علي أي عمل إيجابي يقوم به الآخر.. ولكن.. أين الحكومة؟ التي من واجبها أن تقدم الرعاية الصحية، والتعليمية، والاجتماعية للمواطن، الذي كفل له الدستور الحق في السكن والتعليم وتلقي الرعاية الصحية والاجتماعية؟ هل اعترفت الحكومة بعجزها وتخلت عن واجبها نحو المواطن وسلمته لمن يستطيع ان يملأ الفراغ من الأحزاب أو المجتمع الأهلي؟ الحملة اقتبس لها حزب الحرية والعدالة أحد هتافات الثوار بميدان التحرير، أيام الثورة، وفي المليونيات التالية "مصر يا أم.. ولادك اهُم".. الحملة مفيدة علي الأقل من الجانب الإنساني، لكنها مؤقتة ومحدودة الأثر، وكأنها تتعامل بالمسكنات أو ما يسمي "قاتل الألم" مع أمراض مستعصية، ومن المؤكد انها لن تساهم في عملية التنمية أو النهضة. وقديماً قال الصينيون "علمني كيف اصطاد بدلاً من أن تمنحني سمكة". ألم يكن من الأفضل توجيه تكاليف هذه الحملة مهما كان قدرها نحو مشروع واحد حكومي حتي لو كان محدوداً كتوجيه العلاجات للمستشفيات الحكومية وتزويدها بالمستلزمات الحيوية الناقصة؟ أو لدعم أسعار الدواء أو الغذاء لتخفيض عبئه عن كاهل المواطن المسكين؟ أو تطهير بعض الترع وتوفير الماء النظيف للوقاية من الأمراض أو إنشاء وحدات للصرف الصحي في المناطق المحرومة منه؟ تساؤلات اتمني ان نسمع إجابتها من المسئولين الإعلاميين عن الحملة. وكالة البلح خبر سعيد نشر في الصحف اليومية أشاع البهجة عن حملة أمنية لإعادة الانضباط والوجه الحضاري لمنطقة أبو العلا بعد ان زحفت حدود وكالة البلح الي ناصية مقر الجريدة، واحتل الباعة الجائلون وتجار البالات والملابس المستعملة جوانب شارعي 26 يوليو و الجلاء، ولم يعد هناك نهر للشارع أو رصيف يمكن السير عليه، وبعد ان عمّت الفوضي والبلطجة والتحدي لأجهزة الدولة، وسرقة التيار الكهربائي من أعمدة الإنارة في الشوارع. حمدت الله علي أننا نعود ولو ببطء الي المسار الصحيح، ومنّيت النفس بطريق نظيف خالٍ من الإشغالات. لكنها فرحة ما تمت إذ لم يكد يمر يومان علي قراءة الخبر والعودة الي عملي بعد إجازة قصيرة حتي اكتشفت ان الأوضاع باتت أسوأ من ذي قبل. وما كان مؤقتا ومن السهل إزالته أصبح ثابتاً ضارباً في الأرض بقوة الأسمنت والسلاسل الحديدية. وكأن البلطجة اصبحت عنوان المكان، وهؤلاء الباعة لهم من السلطان ما يتحدون به الدولة والنظام العام وقوات الأمن. انتبهت الي تناقضات غريبة في تعامل الحكومة مع مواطنيها، فهي كالأسد علي المواطنين الغلابة المسالمين فترفع أسعار استهلاك الكهرباء في المنازل، ويعنفنا المسئولون من سوء استهلاكنا للتيار الكهربائي في المنازل، ويخفضون الإنارة في الشوارع الرئيسية لدرجة الإظلام أحياناً، لكنها ضعيفة أمام لصوص التيار الحكومي من الشوارع. ينشط رجال المرور في تحرير المخالفات للسيارات بحيث تصل لآلاف الجنيهات، وهم لا يقدرون علي رفع "مرجيحة" أو شماعة ملابس مستعملة تشغل الطريق العام وتعيق الحركة فيه. أليس هذا تمييزاً بين المواطنين؟ وعجزاً من الحكومة. أذكر تعليقاً قاسياً لمدير أحد الأجهزة الأمنية حين سألته عن كيفية تعاملهم مع بعض المواطنين الذين يقاومون السلطات عند تنفيذ الأحكام، لأنهم يشعرون بالظلم واستلاب حقوقهم فقال:" بنمسكهم زي الفراخ" وحين أبديت استيائي من أسلوبه، حاول تبرير هذه الخشونة قائلاً: إزاي أحمي البلد وانا مش قادر أواجه شوية مواطنين وازاي أواجه الإرهاب ساعتها أبقي جهاز أمن فاشل وأقعد في بيتنا أحسن"! سلة الفواكه أشعر بالحزن حين يغيب عن محبوبتي "الأخبار" قلم من أقلامها اللامعة، وتأكلني الغيرة حين تتلألأ نجومها في سماء غير سمائها. لطالما كانت دار أخبار اليوم "سلة فواكه" الصحافة المصرية علي اختلاف مذاقاتها وألوانها. كانت الحاضنة لقامات وأقلام تباهي بها الوطن علي تنوع توجهاتهم السياسية. فيها بدأ الأستاذ هيكل، والراحل أنيس منصور، وغيرهما قبل انتقالهما الي الأهرام. وحتي في أوج الصراع السياسي أيام الرئيس السادات حين بدأت تجربة الخروج من أسر الحزب الواحد وانطلقت الأحزاب وصحفها، خرج معظم رؤساء تحرير ومؤسسي تلك الصحف من تحت سماء دار أخباراليوم .. حامد زيدان، ثم عادل حسين رحمهما الله الي جريدة الشعب لسان حال حزب العمل، مصطفي شردي وجمال بدوي رحمهما الله وعباس الطرابيلي أمد الله في عمره الي الوفد، حسين عبد الرازق وفريدة النقاش ونبيل زكي الي الأهالي لسان حال حزب التجمع، د. صلاح قبضايا الي الأحرار، فشيدوا جميعاً في ذلك الوقت صروحاً للمعارضة وأسسوا لتجارب صحفية كبري. وفي أزهي عصور الثقافة كنت تقرأ في نفس العدد مقالات للشيخ محمد الغزالي، أو للكاتب الإسلامي حسن دوح بجوار مقالات لكتاب يساريين وليبراليين مثل فيليب جلاب أو سعد التايه. اجتمع اليمين واليسار علي صفحات الأخبار وأخبار اليوم.. ومع ان دار أخبار اليوم تحولت الي مؤسسة قومية بعد التأميم، إلا انك كنت تجد مقال رئيس التحرير الأستاذ الراحل موسي صبري يدافع عن سياسات نظام السادات ومعه عمود استاذ الأجيال جلال الحمامصي ينتقد تلك السياسات بكل ضراوة. هذه هي روح الدار. مؤخراً شعرت بعودة الروح الي الأخبار، وعادت نجومها تسطع علي صفحاتها، عمود "عبور" للكاتب العالمي والروائي القدير جمال الغيطاني، "إحم إحم" للصديق العزيز هشام مبارك صاحب جائزة أحمد رجب للكتابة الساخرة. أزهو بأن أجيالاً صاعدة خرجت من رحم جيل الرواد الذين يعطون للجريدة مذاقها وشخصيتها التي تعوّد عليها القارئ. شكراً لرئيس التحريرالأستاذ محمد حسن البنا الذي يحرص علي ألا تفقد "الأخبار" هويتها ونكهتها، ويقوم علي صيانة كنوزنا الفكرية والصحفية التي تفخر بها الدار. وفي انتظار عودة باقي نجومنا.