البضائع الصينية.. اخترقت حدودنا.. بشكل لم نألفه من قبل.. ابتداء من ملابس الاطفال.. وحتي أزياء ربات الحجال.. وجلابيب الرجال.. وفي الوقت الذي وصلت فيه الصين الي الكواكب في الفضاء.. تستغرق إعادة الحرارة للتليفونات الارضية العاطلة.. عندنا.. مدة تزيد عن السنة! ونحن سعداء.. لاننا نعيش في جمهورية السعادة! والمثير في الموضوع انك تجد البضائع الصينية.. تباع فوق الارصفة في شوارع العاصمة.. وتحت اضواء المدينة.. علي رأي شارلي شابلن.. كما تجدها في المتاجر العملاقة.. الكبري متعددة الطوابق.. حيث تحتل المعروضات فيها أكثر من ستة طوابق.. وكل طابق له تخصصه في السلع المعروضة.. ابتداء من قطع الاثاث الصينية التي تنافس صناعة الاثاث في دمياط وتتحداها بجسارة.. ويتنقل الناس بينها يشهدون المعجزات بعيون الاعجاب.. البعض يهرول.. والبعض يحسبل (حسبنا الله ونعم الوكيل) والبعض يحوقل ويردد (لا حول ولا قوة الا بالله) والبعض ينطق بالشكر (سبحان الذي سخر لنا شعب الصين ليضع لنا ما نحتاجه.. من الابرة وحتي الشماريخ والعدسات اللاصقة. والاحذية من كل المقاسات وحتي سجاجيد الصلاة وفوانيس رمضان! شيء عجيب فعلا.. ان تحتل (التجارة) عندنا.. مكانة فريدة لم تصلها (الصناعة).. والابداع.. وتشغيل ملايين العاطلين الذين يسعون للبحث عن عمل شريف ولقمة خبز لدي قبائل الهوتو والتوتسي! لدينا الآلاف من رجال الاعمال الذين يعملون بالتجارة.. ولدينا العشرات فقط من رجال الاعمال الذين يعملون بالصناعات الوطنية.. لسبب بسيط هو ان التجارة لها عائدها السريع بينما تحتاج الصناعة لجهد وعمل واتقان ودقة.. والي الاستعانة بأصحاب الكفاءات العالمية من ارباب التخصص وإلي سياسة.. تضعها الدولة نصب عينيها.. وتعمل بإخلاص علي دعمها. التجارة لها اغراءاتها.. وعائدها السريع.. ولكن الصناعة هي المستقبل.. ويتعين علينا ان نشير إلي ان جمال عبدالناصر أسس شركة النصر لصناعة السيارات سنة 9591.. أي اننا بدأنا في اقامة صناعة للسيارات في مصر.. قبل الصين وقبل كوريا وقبل ماليزيا.. وكانت الفكرة أيامها تدور حول خلق مناخ يمكن ان يؤسس لصناعات أخري.. وكان يعمل في شركة النصر لصناعة السيارات 21 ألف عامل.. واستمر هذا المشروع العملاق طوال سنوات حكم الرئيس أنور السادات وكان يتعدي انتاجه 003 مليون جنيه سنويا.. ويحقق ارباحا ويقوم بالتصدير للدول العربية والافريقية. وفي سنة 5991.. وفي اطار سياسة الخصصة باع حسني مبارك الشركة.. واغتال الحلم الذي راود المصريين طويلا.. في اقامة مجتمع صناعي.. وإلي أجيال من العاملين في الصناعات المكملة.. في العصر الجديد.. عصر التصنيع.. وأحال آلاف العاملين الي المعاش المبكر.. وهكذا اغتال حسني مبارك.. حلما كان يراود ساستنا في ستينيات القرن الماضي.. وخرج الوطن العظيم الذي ننتمي إليه من عصر التصنيع.. ودخلنا عصر الاستيراد من الخارج.. ومن كل بقاع الكرة الارضية.. كان الشعار الذي رفعناه.. أيامها.. هو (ثورة صناعية من اجل الرفاهية والرخاء).. وقالوا ان الزمن القادم هو زمن العمال.. الذين يعملون في جميع الصناعات المكملة.. ويشكلون مجتمعا جديدا.. عصريا.. يتقن استخدام أحدث أدوات العصر. وفي تلك الايام تضمنت الخطة الخمسية الاولي عددا من المشروعات الصناعية الصغيرة التي توفر احتياجات السوق المحلية.. وما يستلزمه الانتاج من شق الطرق واستنباط القوي المحركة.. ورفع مستوي التعليم الصناعي والمهني.. وقال جمال عبدالناصر أيامها ما معناه ان التصنيع لا يعني زيادة الانتاج فحسب.. وانما يعني أيضا مجتمعا جديدا.. منطلقا.. سائرا الي الامام. واستمرت هذه السياسة طوال سنوات الرئيس الراحل انور السادات واستمرت سياسة الطموح السياسي الي ان جاء التدمير والاحباط علي يد النظام الاجرامي البائد.. بتصفية العديد من الشركات الصناعية.. وإغلاق أبوابها.. وتسريح عمالها.. وتحويلهم الي بائعين جائلين للسلع الصينية.. يسرحون بها في الشوارع وفي وسائل النقل العام.. وتطاردهم الشرطة.. وتصادر ما يعرضونه للبيع فوق الارصفة. كانت مصر.. أيامها.. علي بداية طريق جديد للنهضة الحقيقية المواكبة للزمن.. وحدثت.. بالفعل العديد من التحولات الاجتماعية رصدها الكاتب العظيم الراحل احسان عبدالقدوس في قصته الشهيرة »مايوه.. لبنت الاسطي محمود«.. وكانت الرسالة ببساطة تكشف النقاب عن الطبقة العمالية الجديدة التي لم تكن تعرف الاجازات ولا الشوطيء.. ولا الرحلات الصيفية التي كانت تنظمها اللجان النقابية في كل المصانع. وارتدت بنت الاسطي محمود المايوه.. بعد صراع رائع قدمه احسان عبدالقدوس. في الحوار بين الاسطي محمود وابنته سميرة التي كانت تتطلع لحيازة مايوه تنزل به البحر المالح.. حوار بين جيل قديم.. وثقافة قديمة.. وبين جيل جديد.. ينتمي لثقافة العصر.. وتطوراته الهائلة في مجالات العلوم والاتصالات وبرامج التليفزيون.. في تلك الايام.. لم تكن الصين تحلم بصناعة سيارة ولا كوريا.. ولا ماليزيا.. الخ ولا غيرها من الدول التي حملت بعد ذلك اسم النمور الأسيوية. ماذا جري لنا؟.. لماذا تقتحم البضائع الصينية بيوتنا ومكاتبنا وشوارعنا الي هذه الدرجة؟ كيف تباع المسدسات البلاستيك في الشوارع.. ويلهو بها اطفالنا.. الي ان تتحول بمرور الايام الي مسدسات حقيقية يطلقون بها النار علي أهاليهم وأقاربهم في البيوت؟ لقد تراجعنا.. للأسف.. بشكل مذهل.. ولم نعد نجد العامل الماهر في سنترالات التليفونات داخل القاهرة.. وعليك ان تنتظر لاكثر من سنة لاصلاح أي تليفون في منزلك.. كما يحدث في سنترال شيراتون.. ويتكرر في سنترالات أخري بالتأكيد.. ومع كل هذا الهم.. فنحن نعيش علي أرقام وهمية تعلنها الصحف كل يوم وتقدم لنا التصريحات الوردية علي ألسنة كبار المسئولين لتدخل في قلوبنا ومضات من السعادة التي تبهر عيوننا ثم تختفي.. قبل ان يشعر كل واحد منا بالسعادة علي أرض الواقع.. في وقت تضيق فيه الرقعة الزراعية.. وتتسع الذمم! كل ما نتمناه ان يشعر الانسان المصري بسعادة حقيقية.. وانه بالفعل يعيش في »جمهورية السعادة«! وكل عام وأنتم بخير!