محىى عبدالرحمن يارب.. كلمة السر التي ألفت بين قلوب المصريين.. وشفرة الرباط الأبدي التي عجز المغرضون والحاقدون عن فك رموزها علي مر العصور. السبت: تابعت عبر شاشات التليفزيون المصري مع الملايين وقائع الاحتفالات لاختيار البابا الجديد ليخلف الراحل البابا شنودة الثالث بطريرك الكرازة المرقسية، ورغم ان معني كلمة احتفالية له مدلول يحمل مضمون البهجة والسرور إلا انه انتابني شعور غريب وانا أتابع ايقاع المراسم وأكاد اسمع دقات قلوب آلاف المسيحيين وهم ينتظرون تلك اللحظة التاريخية التي لا تتكرر كثيرا إلا في حياة الأجيال المتعاقبة، كنت اتنقل بسرعة البرق مع الأعين المترقبة لحظة الاختيار بدءا من صعود الطفل الذي وقع عليه اختيار القدر ليقوم بتلك المهمة الصعبة.. إلي حيث الصندوق الزجاجي الموضوع بعناية فائقة علي منضدة بارزة ليراها كل الحضور، دقات القلوب تتصارع مع كل حركة لهذا الطفل الذي ستحدد يده الرقيقة من سيفوز بخلافة البابا شنودة الراحل، كان ايمان الرجل بمقولة ان مصر ليست مجرد وطن نعيش فيه وإنما هي وطن يعيش فينا اقوي جهاز اطفاء قادر علي اخماد حرائق مشاجرات ومشاحنات مفتعلة ودحر المكائد التي سعت إلي زرعها محاولات عديدة لاعداء الوطن والمواطنة في الداخل والخارج.. نعود الي وقائع الاحتفالية التاريخية التي شهدتها قاعات مبني الكاتدرائية واعلن فيها عن فوز البابا الجديد »تواضروس« بكرسي الباباوية... تجمعت الحشود داخل الكاتدرائية، اصطفت الاجساد وتلاصقت القلوب وراحت ترجف في تساؤلات مخفية فضحتها دموع الشوق و المحبة من ياتري سيفوز بالقرعة؟!!.... من الذي سيختاره القدر لينال هذا الشرف العظيم، الطفل المختار يتحرك ببطء متجها نحو أحد الاساقفة الذي يستقبله بود شديد ويضع يده علي رأس الطفل كنوع من التبرك وفي تلك اللحظات تنطلق أصوات الجميع وتعلو في طبقة واحدة تدعو وتقول »يا رب«، يصل الطفل الي البلورة الزجاجية التي وضعت فيها ثلاث كرات ورقية كتب في كل واحدة منها اسم مرشح من الثلاثة، تتم ازاحة غطاء البلورة و يمد الطفل يده فيها ليستخرج الكرة التي بها اسم البابا الجديد. اختيار قدري يتم الاعلان ويتبادل الجميع التهاني بالفوز، اذن هي ليست قرعة في منافسة أو صراعا علي منصب أو جاه انما هي طقوس لاختيار قدري يرضي به الجميع مسبقا مؤمنين باختيار القدر فالمرشحون جميعا لهم نفس الرصيد من الحب والاحترام في قلوب المسيحيين كافة، والأمر لا يعدو تكليفا قدريا لقيادة روحية لها حق الطاعة وعليها واجبات الرعاية والتقويم وتغذية الروح بمبادئ المحبة والتسامح التي اوصي بها المسيح عليه السلام: عدت لارتب تلك المقاطع المتتالية فتكون امامي مشهد مكتمل قادني الي البحث في طبيعة وطبائع المصريين والتفكير جيدا فيما يتم النشر عنه في وسائل الاعلام من ان المصريين نسيج واحد المسلم والمسيحي فيه علي حد سواء، تذكرت الحديث النبوي الشريف الذي ورد في شأن المصريين بأنهم »خير اجناد الارض وهم في رباط الي يوم الدين« وتساءلت في نفسي عن ماهية هذا الرباط؟ وما ملامحه.. قوته التي جعلت قطبي الشعب المصري مسلمين ومسيحيين كالتوأم الملتصق لا يمكن فصل احدهما عن الآخر، وإذا حاول أحد ذلك فالنتيجة معروفه مسبقا ومؤكدة ان كليهما سيموت.. واعادتني الذكريات الي احداث مرت ولم تترك الخلافات فيها اثرا اللهم إلا لحظات غضب وقتي سرعان ما زالت واختفت بفعل الترابط والمواطنة الضاربة جذورها في أعماق الأجداد وسرت في دماء الاحفاد حتي صارت شريان الحياة فيهم وبدونها لن تكون هناك حياة علي الاطلاق، فتلك شرايين حياة تنبع من قلب واحد يستنشق هواء واحدا علي ارض واحدة، فهذه التركيبة الفريدة صنعها الرباط المقدس الذي اخبر عنه نبي الاسلام محمد »صلي الله عليه وسلم« والذي أمر أصحابه في صدر الاسلام بالهجرة الي الحبشة لان فيها ملكا لا يظلم عنده احد، هذا الملك الذي آمن بما انزل علي المسيح من ربه، وقرأ الانجيل وآمن به، سمع من المهاجرين المسلمين ايات من القرآن ومبادئ الفضيلة التي يدعو اليها الاسلام فرفض اعادتهم الي قريش وقال انها، أي تلك القيم والشرائع التي جاء بها نبي الاسلام، والتي تحرم الرذيلة وتحض علي الفضيلة ومكارم الاخلاق مطابقة لما دعا اليها المسيح، مما يؤكد انهما صادرتان من سراج واحد، اذن الان نستطيع ادراك معني الرباط الذي جمع المصريين وسيمكثون فيه الي يوم الدين شاء من شاء وأبي من أبي، انه بلا شك التدين والتمسك بالعقيدة والاحتكام الي الشرائع السماوية التي ترفض العنف وتنبذ التطرف وتدعو الي المحبة والتسامح وحسن المعاملة، نعم ان نبضات تلك القلوب المتعلقة بالمشيئة الالهية داخل الكاتدرائية اثناء اختيار الاب الروحي للمسيحيين والتي كانت تدعو بكلمة واحدة تقول "ياااااااااااااااااااارب".. لهي أكبر دليل علي ان حب المصريين للدين الذي يعبدون به ربا واحدا وان اختلفت الطرق وتنوعت الطقوس كل حسب عقيدته، وتمسكهم بما نزل علي الانبياء كافة من شرائع تدعو الي المحبة والتعايش في سلام علي ارض الله وتحرم الظلم وتوجب العدل وتكفل الفقير وتحتم نصرة المظلوم.. ذاك بالقطع هو الرباط الإلهي الذي جمع المصريين بأمر من رب العالمين.. وتلكم سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. كلكم لآدم وآدم من تراب.. »التوحيد في مصر الفرعونية« الاثنين: ذكر المؤرخون ان مصر عاشت معظم عصورها علي مبدأ التوحيد وهو عبادة الإله الواحد وان نبي الله أدريس عليه السلام مصري حمل رسالة التوحيد وكان يسمي "اخنون" وهو أول من خط بالقلم كتبا فيها عبادته وتسبيحه لله رب العالمين وعند وفاته ترك تراثا هائلا من رسائل التوحيد، ويعتبر اقدم النصوص التوحيدية في مصر القديمة متون يرجع تاريخها الي العصر الحجري الذي نشأ عليه ادريس ومن تلك المتون ان الخالق لا يمكن معرفة اسمه لانه فوق مدرك كل عقل، وذكر في دائرة معارف البستاني ان ادريس عليه السلام ملأ 300 كتاب بإلهامات ووحي انزل عليه من عند الله، وفي عام 1869 كتب عالم الاثار »دي لا روج« مقالة ذكر فيها ان التسابيح الموجهة الي الإله الواحد كانت تسمع في وادي النيل قبل خمسة آلاف عام، فقد تأكد ان المصريين موحدون بالله منذ عهد مينا أول ملوكهم، وفي عهد الأسرة عاش »كاجمني« احد الحكماء وكتب عدة نصائح و عظات منها "اسلك تاريخ الاستقامة لئلا ينزل عليك غضب الاله " - لا تكونن فخورا بقوتك لان الإنسان لا يعرف ماذا سيكون مصيره- وكتب الحكيم بتاح حتب "بيد اله مصير كل حي ولا يجادل في هذا الا جاهل، ان تدبير الخلق بيد الله الذي يحب خلقه، و قال الحكيم (اني) اسرار ملكوت ربك فوق مدرك العقول. الفلاح الفصيح الخميس: ومن القصص الطريفة والنادرة تلك التي سجلتها إحدي البرديات وجرت أحداثها ابان حكم الاسرة الحادية عشرة 2200ق.م عن فلاح فقير من أهالي اقليم وادي النطرون وهي بحيرات غنية بالملح الذي يستخدم في التحنيط، وكان يسكن في قرية اسمها حقل الملح وخرج هذا الفلاح يقود قطيعا من الحمير محملا بحصيلات قريته وكان الطريق يحتم عليه ان يمر بضيعة رجل من الأثرياء يدعي »تحوتي ناخت« وكان موظفا لدي الوزير الأول للفرعون لكنه كان فاسدا وعندما شاهد الفلاح وقطيعه دبر حيلة لاغتصاب القافلة فقام بغلق الطريق بصناديق الكتان ليضطر الفلاح الي النزول في احد حقوله وكان الحقل مزروعا بالقمح فالتهمت الحمير بعض سيقان القمح اثناء عروجها علي الحقل فقبض علي الفلاح وأوقف القافلة، وقضي الفلاح المسكين أربعة أيام يحاول اقناع الموظف بأن الطريق كان مستقيما لكنه وجنوده وضعوا العوائق عليه واضطروه للنزول إلي الحقل لكن مبرراته لم تفلح في اقناع الموظف الفاسد للافراج عن القافلة واعادتها لصاحبها فرفع الفلاح شكواه الي الوزير الاول للفرعون وكان يدعي (رنزي) وكان مشهورا بحبه للعدل، وجرت احداث القصة باستدعاء الموظف الذي استولي علي القافلة والذي احضر معه شهودا اقروا امام الوزير الاول ان الفلاح لا يدفع الضرائب وانه اطلق حميره لتسرق القمح، ولما رأي الفلاح ذلك توجه الي الوزير الاول بتسع مرافعات ارتجلها، وقال في الاولي" اقم العدل وارفع الظلم فاني احمل اثقالا فوق اثقالي، وقال في الثانية رسخ الحق فإنه إرادة الله اما الظلم فهو منفي من الارض وقال في الثالثة أيها الوزير احم التعس وضيق الخناق علي اللصوص واحذر فإن الأبدية (الموت) تقترب، وقال في الرابعة "افهم انك والموازين سيان فهل يخطئ الميزان؟! واعلم ان لسانك هو رمانة الميزان وقلبك هو المثقال وقال في الخامسة وحتي التاسعة نصبت لتنصف المظلوم ولكن انظر انت تغرقه بيديك: اقض علي الظلم واقم العدل وقدم ماهو حق وامح ما هو سيئ، اقم العدل لرب العدل، العدالة تنزل مع من يقيمها إلي قبره عندما يوضع في التابوت ويثوي علي الاديم. وعلم الفرعون بالقصة بعدما رفع وقائعها إليه وزيره الأول فأعجب بمهارة الفلاح الفصيح فأمر بإعادة قافلته إليه ومعاقبة الموظف الفاسد ونقل ضيعته وأملاكه للفلاح الفصيح.