في 26 نوفمبر أحتفل العالم المتحضر بأجمعه مع الشعب المصري العظيم بذكري مرور تسعين عاماً علي أكتشاف مقبرة الملك المصري الشاب توت عنخ أمون (أي: الصورة الحية للإله أمون). هذا الكشف الذي اثار اهتماماً واسعاً في العالم كله، ولا يزال أغني الأكتشافات في تاريخ الآثار بصفة عامة. فإذا تركنا جانباً قصة هذا الكشف الأثري الهام وتلفتنا بتمعن وفحص إلي النتائج المترتبة علي هذا الكشف من الناحية الانسانية وما تحمله الكنوز المكتشفة من معانٍ سامية، وبالأخص أننا نجتاز مرحلة حرجة في تاريخ أمتنا المصرية إذ تعصف بها التجارب والمحن والخلافات، وتطفو علي السطح المصالح الشخصية والأنانية والتمسك بالمناصب الزائلة، نجد الآتي: (1) رأينا كيف كان الأقدمون مغرمون بالخلود، فعمدوا إلي بناء الآثار الخالدة التي تقوم علي دعائم من الخلق المتين وإتقان ما يصنعون وأن الخلد لا ينال في سهولة ويسر، لأنه يحتاج إلي الهمم الكبيرة والعبقرية الخارقة التي يمجدها التاريخ. فمن يريد أن يخلد ذكره يجب أن يكون علي درجة كبيرة من الهمة والعبقرية والأمانة. (2) أحتفظ المصري القديم بالجسد بعد موته، فقد أعتقد المصري القديم أن النفوس تبقي ما دامت أجسامها باقية، وتفني إذا فنيت هذه الأجسام. فمن هنا أرادوا أن يحتفظوا بأجسامهم حني تظل نفوسهم باقية. لكن للأسف كم من أجساد حية بيننا بينما نفوسهم ميتة بسبب سوء أعمالهم المتمثلة في الكذب والخداع والتزوير والرياء والنفاق. ليس هذا فحسب بل يزينون أعمالهم بأعمال زائفة وباطلة. أذكر كلمة رائعة سجلها يوماً الفنان القدير الأستاذ حسين بيكار بجريدة الأخبار في 18/10/1996 تقول: (ولعوله الشمع في عيد ميلاده عشان يحتفي ... بسنين ولت وراحت، وسنين راح تختفي ... ولما شاف الشمع بنفخة واحدة بينطفي ... قال عجبي علي ابن آدم لا بيشبع ولا بيكتفي!!). (3) حرص توت عنخ أمون علي أن يدفن العرش معه، إذ ربما كان يأمل في العودة إلي الحياة، ويكون له حينئذ مُلك ودولة، أو ربما كان يأمل أنه سيبقي لكن وهو جالس علي عرشه في حين يلقاه الناس مترجلين. وهذا يدل علي مدي تمسك الانسان بسلطاته ولا يقر ولا يعترف أن كل شئ زائل، باطل الأباطيل الكل باطل ولا منفعة تحت الشمس، فكل شئ تحت السماء مثل قبض الريح !! (4) عثروا في المقبرة علي طعام حتي أنه يُخيل للمشاهد أنه ظل برائحته الطيبة ومذاقه الطيب كما تركته أيدي صانعيه!! مع أنه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان. (5) بموت توت عنخ أمون وجميع ملوك مصر القديمة وجميع الملوك والرؤساء الذين تولوا حكم مصر بعد ذلك، تجلت أمامنا حقيقة هامة وهي أن الحكم المُطلق قد أنقضي، وحل مكانه حكم الشعب لنفسه، وأصبح الملوك ينزلون علي حكم رعاياهم. فعلينا أن نتدبر هذا الأمر، فلا يستعبد الرئيس مرؤوسيه ولا السيد يستعبد عبيده، فلم يعد هناك حكم الفرد بل هو حكم الجماعة وما الرئيس إلا خادمهم. فمن أراد أن يكون عظيماً فليكن خادم للكل ليس بالكلام ولكن بالفعل. ما أسهل الكلام، وما أصعب الفعل. لكن أصحاب المبادئ والنفوس العملاقة تقول بصدق ما تؤمن به حقيقة. (6) تميز المصريون القدماء الذين أنفردوا بين العالم كله بحب الخلود، فأوجد ذلك فيهم خلقاً يتميزون به من بين الناس جميعاً هو إتقانهم لكل ما يصنعون، ورغبتهم في إحسان ما يعملون. وهذه سمات الذين يتطلعون إلي الحياة فيما بعد الموت، تكون كل أعمالهم في الحياة الأرضية تزكيهم للحياة الأخري، وتكون كل أعمالهم الأرضية ملتحفة بالجودة والأتقان ومغلفة بالصدق والأمانة والشفافية لئلا تكون دينونته قاسية، وأعماله مفضوحة. فالانسان الصالح والبار والشجاع يقف علي قمة العالم عندما يصير لا يملك شيئاً ولا يشتهي شيئاً!! ويكون دائما لسان حاله: (كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلي الله). فالذي يسعي بحرص نحو الخلود لابد أن يبدأ من هنا بأتقان ما يقوم به علي أحسن وأكمل وجه. فشكراً للفرعون الشاب الذي لقنا في رقاده الجليل من المعاني السامية، لعلنا ندركها قبل فوات الآوان. كاتب المقال استاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة