بينما تُتابع واشنطن قرارات المحاكم الفيدرالية الأمريكية بدقة، تتبع إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب مسارًا مُغايرًا، أكثر هدوءًا وأشد خطورة. فبدلًا من إعلان صدام مباشر مع القضاء الأمريكي، تعتمد إدارة ترامب على استراتيجية قانونية ملتوية، تُعلن من خالها الامتثال لأوامر المحاكم، لكنها تتجاهل تنفيذها فعليًا، في ما يبدو أنه تمرّد صامت على سلطة القضاء، فما القصة؟؟ خلال الأشهر الأولى من ولاية ترامب الثانية، كشفت وثائق ومحاضر عشرات القضايا عن نمط مُمنهج، بداية من أن السلطة التنفيذية تُقدّم مبررات قانونية مشكوك في صحتها لتبرير عدم تنفيذ الأحكام، بما في ذلك أحكام تمنع ترحيل مهاجرين إلى دول أخرى، مثل ترحيل فنزويليين إلى السلفادور رغم أمر قضائي بإعادتهم. وتعكس هذه الممارسة التي يسميها خبراء «اللاامتثال القانوني» أزمة دستورية قائمة بالفعل بالولاياتالمتحدة، لكنها مُغلّفة بلغة قانونية تُخفي التحدي الحقيقي للقضاء، وتُظهر النزاع وكأنه اختلاف في التفسير، لا خرق في جوهر النظام الدستوري الأمريكي. اقرأ أيضًا| تصعيد خطير بين القضاء الأمريكي وإدارة ترامب يهدد توازن السلطات في واشنطن حكومة ترامب تتحايل على القضاء ب«حجج قانونية مصطنعة» رغم الأوامر القضائية الواضحة في ملف الهجرة، تمسّكت حكومة ترامب بموقفها، مُؤكدة أنها "امتثلت" للقانون الأمريكي، واستندت في ذلك إلى تفسير فني لعبارة "عدم الإبعاد"، مدعية أن الطائرات التي أقلّت المرحّلين كانت قد غادرت الأجواء الأمريكية قبل صدور القرار القضائي، وبالتالي فهي لم تُبعدهم فعليًا، لكن هذا التفسير تجاهل بشكل فادح تعليمات القاضي بإعادة الطائرات، وحماية الأشخاص من الترحيل إلى دول ثالثة كالسلفادور. وواصلت إدارة ترامب تبرير تصرفاتها عبر ثغرات قانونية واهية، ففي إحدى القضايا، زعمت الحكومة الأمريكية أن القاضي لم يُكرر نصًا أمر إعادة الطائرات في الحكم الكتابي، مما يجعل الأمر "غير مُلزم"، بحسب تفسيرها، غير أن الحكم المكتوب أشار بوضوح إلى ما نُوقش في الجلسة، لكن لم تُقدم الحكومة الأمريكية أي دليل على تغيير المحكمة لرأيها. ترحيل أبريجو جارسيا.. ومغالطة «السيادة» في قضية أبريجو جارسيا، المُرحّل عن طريق الخطأ إلى السلفادور، ادّعت الحكومة الأمريكية أنها لا تملك سلطة لاستعادته، كونه الآن تحت سيادة دولة أجنبية. لكنها بحسب مجلة «ذا أتلانتيك» حجّة لا تصمد أمام الواقع؛ فالرئيس الأمريكي، دونالد ترامب نفسه أقرّ بأنه قادر على إعادته باتصال مباشر بالرئيس السلفادوري، ضمن اتفاق بين البلدين يتيح للولايات المتحدة تأثيرًا مباشرًا على الملف. من جانب آخر/ وفي مُواجهة دعوى ضد تجميد أموال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ادعت إدارة ترامب أنها ألغت 95% من عقود الوكالة (أكثر من 6000 عقد) بعد صدور الحكم، بموجب ما وصفته ب"تحليل فردي" لكل عقد، لكنها بذلك تجاهلت جوهر الحكم القضائي الذي طالب بوقف التجميد لا إعادة هيكلة كاملة للعقود. ورغم أمر المحكمة بعدم تنفيذ قرارات فصل جماعي داخل مكتب حماية المستهلك المالي، قامت الحكومة الأمريكية، بإرسال إشعارات فصل لأكثر من ألف موظف، وبرّرت تصرفها بأن ما جرى لا يُخالف الحكم القضائي، لأنها "قيّمت" كل مُوظف بشكل مُنفصل، وهو مُبرر يُخفي تمردًا فعليًا على مضمون القرار القضائي. الأزمة الدستورية الحقيقية ويرى الكاتب والمُحلل السياسي آدم سيروير، أن "اللاامتثال القانوني" – أي استخدام الحكومة الأمريكية لُغة قانونية للتحايل على قرارات القضاء الأمريكي – يُمثل خطرًا أكبر من رفض علني لأوامر المحاكم، إذ يمنح هذا النهج غطاءً زائفًا للتمرد، ويُقلل من حجم الغضب الشعبي المُتوقع في حال وقوع عدم امتثال صريح، بحسب مجلة «ذا أتلانتيك». وفي ظل محاكم يهيمن عليها التيار المحافظ، تسعى إدارة ترامب لاستنزاف سلطة القضاء الأمريكي عبر تقديم تبريرات قانونية غريبة. وهذه الاستراتيجية تهدف إلى دفع المحاكم تدريجيًا نحو إصدار أحكام "تتعايش" مع واقع عدم التنفيذ، خوفًا من التصعيد،وذلك نحو نتيجة شرعنة تدريجية لعدم الامتثال، وخلق هوة بين القانون والتطبيق، وفقًا لما أشارت له «ذا أتلانتيك». اقرأ أيضًا| بعد استهداف ترامب هارفارد.. ما حدود تدخل الإدارة الأمريكية في حرية الجامعات؟ هل تفتح المحكمة العليا الباب للتمرد المقنّع؟ أظهرت المحكمة العليا الأمريكية، ميولًا مُقلقة نحو تليين المواقف، فمثلا، في قضية أبريجو جارسيا، أكدت للمحكمة الأدنى أنها تستطيع "تسهيل" عودته، لكنها تساءلت عن إمكانية "إلزام" الحكومة بذلك، لكن الحكومة تلقفت هذا التمييز لتُبرر عدم التنفيذ الفعلي، مستندة إلى ثغرات لغوية لا أكثر... وفي خطوة استثنائية، تدخلت محكمة جزئية في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، بسرعة بعد معلومات عن نية الحكومة الأمريكية ترحيل أشخاص آخرين خارج الولاياتالمتحدة، رغم أمر سابق بمنع ترحيلات من هذا النوع لبلاد محددة، لا سيما أن هُناك أمر القاضي بإبقاء الأفراد قيد الحجز، وأكد أن سلوك الحكومة "ينتهك بشكل واضح" حكم المحكمة، وفرض عليها إجراءات إضافية لحماية حقوق المرحّلين. فيما نجحت إدارة ترامب في تطبيق هذا النهج طالما بقيت كل حالة منعزلة عن الأخرى، لكن مع تزايد الانتباه القضائي والإعلامي لهذا النمط، قد يبدأ التمويه القانوني بالانهيار، إذ كلما أدركت المحاكم والجمهور بالولاياتالمتحدة أن ما يحدث ليس خلافًا قانونيًا بل عِصيانًا منهجيًا، زاد الضغط لإنهاء هذه الممارسة وفرض احترام صارم لأحكام القضاء الأمريكي... اقرأ أيضًا| وراء الكواليس| لماذا يعتبر «راسل فوجت» واحد من أهم صناع القرار في الحكومة الأمريكية؟