الأسي وقود الإيمان يرفع حرارته ويصهر معدنه. ومن للمظلوم المستضام إلا ربه يفرج كربه ويستجيب دعاءه ويلبي طلبه ويحقق امله. ويجعل له من لدنه سلطانا نصيرا. والرسول صلي الله عليه وسلم حين ضاقت عليه مكة علي سعتها واشتد أذي المشركين له ولأصحابه بعد موت أبوطالب وخديجة أمر أصحابه بالهجرة إلي الحبشة. ثم هاجر إلي الطائف ومعه غلامه زيد بن حارثة فوجد في الطائف ظلما أشد وانقطعت به الأسباب ولم يبق إلا الاستعانة بالله و اللجوء إليه. والإنسان الذي يمده الله بالأسباب عليه أن يستعمل هذه الأسباب. وأن يجتهد وسعه في أن يستخدمها للوصول إلي أغراضه وأهدافه وحين يلجأ إلي الله ومعه الأسباب يرد الله رجاءه لأنه معه الأسباب ولكن إذا ما أصبح مضطرا وقد أعيته الأسباب عليه ان يلجأ إلي الله لينصره لأن السبب قد امتنع. والمقدمات لم تعد في استطاعة البشر من أجل هذا وقف النبي صلي الله عليه وسلم موقفه الضارع إلي الله. الذي ناجي فيه ربه قائلا: »اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني علي الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلي من تكلني يارب. إلي بعيد يتهمني أم إلي عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي. ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من ان تنزل بي غضبك. أو تحل علي سخطك. لك العتبي حتي ترضي ولا حول ولا قوة إلا بالله«. دعاء فيه كل مقومات الإيمان واليقين لأن الله الذي أرسله لن يخذله ودعاء يبين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد استنفد الأسباب. وأنه لم يجد إلا عدوا وإلا بعيدا.. حينئذ لابد أن تتدخل السماء.. سمع الله ضراعة رسوله وأراد ان يعلمه ان جفاء أهل الارض لا يعني ان السماء تخلت عنه ولكن المولي عز وجل سيعوضه عن جفاء أهل الأرض بحفاوة السماء وعن جفاء عالم الناس باحتفاء واحتفال عالم الملأ الأعلي. وسيريه من آياته ومن قدرته ومن أسراره في الكون ما يعطيه طاقة وشحنة.. وأن الله الذي أراك هذه الآيات قادر علي أن ينصرك ولن يتخلي عنك. ولكنه تركك للأسباب أو لتجتهد فيها حتي تكون أسوة لأمتك ألا تدع الأسباب وترفع أيديها إلي السماء. لقد كان حدث الإسراء والمعراج نتيجة لجفوة أهل الأرض الذين حاول أن ينشر فيهم دعوته لرسول الله صلي الله عليه وسلم ونتيجة لفقد النصير ونتيجة لفقد الحامي والمعين والله سبحانه وتعالي شاء أن يجعل لرسول الله صلي الله عليه وسلم هذه الرحلة العلوية حتي يثبت له تكريمه، وحتي ثبت له أن في الله عوضا من كل فاقد وأن الملكوت سيحتفي به حفاوة تمسح عنه عناء هذه المتاعب. وسيعطيه شحنة قوية لتكون زادا له في دعوته. تدفعه إلي مزيد من الجهد والطاقة فمدد السماء معه ومن كان معه مدد السماء فلا قوة تقهره ولا يستطيع أحد أن يثنيه من عزمه أو يمنعه من تحقيق هدفه والوصول إلي غايته. وحدث الإسراء يتحدث عنه القرآن الكريم في استهلال سورة الإسراء فيقول عز من قائل: بسم الله الرحمن الرحيم »سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير«. هذا النص القرآني هو توثيق لحادث الإسراء. وحين يجيء النص القرآني بحدث فليس لنا إلا أن نؤمن به لأنه ورد عن الله سبحانه وتعالي: وليس للعقول أن تبحث البحث الجاري في قوانين الأرض وقوانين البشر لنحاول أن نفهم قوانين الله. ولكن مادام الله هو الذي قال فالأمر الذي يجب هو أن نسلم بما قال الله عز وجل. وحدث الإسراء والمعرج استهله المولي سبحانه وتعالي بكلمة: »سبحان« ومعني سبحان حين تتلقاها الأذن. تعطي الإنسان طاقة قوية تبعد عنه كل شبه المقارنة التي تحدث بين قانون المادة البشري الإنساني وبين قانون الله عز وجل. فاستهل السورة بقوله: »سبحان« حتي يعلم الناس أنها قوة فوق قوة البشر وليتأكدوا أن قانون الله في الفعل ليس كقانون البشر. وانه بيده ملكوت السماوات والارض. وأن امره اذا اراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ثم بعد ذلك قال: هو الذي أسري. ومحمد صلي الله عليه وسلم هو الذي أسري به. اختار الله لفظا يعطي حيثية تلك التجربة وهو »بعبده« ثم بعد ذلك بداية الإسراء »من المسجد الحرام« ونهايته »إلي المسجد الأقصي« ثم قال ربنا سبحانه العلة أو السبب »لنريه من آياتنا« ثم أورد السبب في كل هذا »إنه هو السميع البصير« سميع لماذا؟ وبصير بماذا؟ فهذا التعبير يوضح العلة الحقيقية التي استوجبت أن يسري الله سبحانه و تعالي برسوله صلي الله عليه وسلم.. فقد سمع الله الإيذاء الذي أوذي به رسوله. وعلم ورأي ما تعرض له من الجفاء والاستهزاء والسخرية ومن الإهانة كل ذلك بمرأي ومسمع من الله فحين رأي ذلك وسمع أراد أن يريه الآيات فأسري به. تم ذلك في الوقت الذي تجمعت فيه علي الرسول صلي الله عليه وسلم كل أسباب الهم والحزن. وأغلقت في وجهه الأبواب في الأرض؟. فتفتحت له أسباب السماء واستضافه الله عنده في الملأ الأعلي بطريقة غير مألوفة لدي أهل الأرض. ليعلموا جميعا أن يد العناية الإلهية ترعي هذا الرسول المجاهد الصابر وسترعاه حتي يجيء نصر الله والفتح المبين. وليستمد الرسول صلي الله عليه وسلم من هذا التكريم زادا فوق زاد من الايمان بربه والثقة بنصره ويأخذ طاقة فوق طاقة تعينه علي المضي في دعوته وجهاده غير عابئ بالمعاندين حوله، حتي يمكن لدين الله في الارض وقد كان. وليس هناك أجمل من أن يثني الله علي نفسه لأنه كرم رسوله هذا التكريم بهذا الأسلوب الخارق للعادة: »سبحان الذي أسري بعبده« ويعظم الله نفسه. ويعلمنا تعظيمه لانه سبحانه بقدرته هو الذي تولي أمر هذه الرحلة التي عجزت عن إدراكها العقول، وبقي واجبا علي اتباع محمد صلي الله عليه وسلم الذي يعد تكريمه تكريما لهم أن تلهج قلوبهم وألسنتهم بالحمد والشكر والثناء علي الله »سبحانك ربنا لك الحمد في السموات والأرض وأنت العزيز الحكيم. وعلي كل شيء قدير«. مسار الرحلة الذي حدد مسار الرحلة والذي اختار التوقيت هو المولي سبحانه وتعالي. ولذلك جاء القرآن ليؤكد هذا ويؤكد ان الله بقدرته وعظمته هو الذي حدد وهو الذي أمر جبريل ومعه البراق ان يصحب رسول الله صلي الله عليه وسلم. وما كان لرسول الله أن يختار أو يخالف مع من بيده ملكوت السموات والارض لأن الإسراء والمعراج كان الوجه الآخر للبلاء الذي بلغ ذروته في يوم الطائف فالرسول الذي كان لا يجد مجيبا لدعوته أمضي ليلته مع الأنبياء. والأقدام الدامية التي كانت تتعثر علي الطريق من الإيذاء استقامت علي الطريق من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي ثم إلي السموات العلا ليريه المولي عز وجل من آياته في الارض وفي السماء ايضا. ففي الارض كانت الرسالة لرسول الله صلي الله عليه وسلم ان الدعوة التي جاء بها والمحاصرة في مكة والمحاربة في مكة والمضيق عليها في مكة ستنطلق إلي آفاق أرحب وإلي دنيا أوسع وإلي بلاد تسعد بها وتحافظ عليها.. فقد مرَّ صلي الله عليه وسلم مع جبريل في طريقه إلي المسجد الاقصي بأرض ذات نخل فقال: ما هذه يا أخي يا جبريل فقال: هذه طيبة طيب الله ثراها. فنزلا وصليا ركعتين. وكانت المدينةالمنورة تسمي طيبة وتسمي يثرب قبل أن تنار بمقدم رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم واصلا رحلتهما حتي مرا بأرض بيضاء قال: ما هذه يا أخي جبريل قال: هذا الوادي المقدس طوي الذي كلم الله عليه موسي »منطقة الطور في جنوبسيناء« فنزلا وصليا ركعتين والدلالة أن الدعوة ستنداح إلي هذه الأماكن ثم منها إلي الدنيا بأسرها وإلي العالم اجمع ثم التقي الانبياء في هذه الليلة المباركة وسمع من كل منهم قوله: اهلا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صفهم جبريل صفا واحدا وقدم النبي محمداً صلي الله عليه وسلم ليصلي بهم إماما. لم يعترض بني ولم يرفض نبي ولم يأب نبي، فالانبياء جميعا إخوة كما أخبرنا بذلك نبينا بقوله: »الانبياء جميعا إخوة أبناء علات أمهاتهم شتي ودينهم واحد« فإذا كان الانبياء جميعا إخوة فلماذا يتقاتل أتباع الانبياء؟ ولماذا يتخاصم أتباع الانبياء؟ ولماذا يعادي أتباع الانبياء بعضهم بعضا؟.. ليتهم جميعا يسيرون علي طريق انبيائهم. ويهتدون بهدي أنبيائهم حتي يعم الأمن والسلام والرخاء العالم كله وننبذ الفرقة ونعيش الألفة والمحبة والتعاون، هذا اللقاء بالانبياء والصلاة بهم يؤكد أن دعوة النبي صلي الله عليه وسلم هي الدعوة الخاتمة، وأن دعوته ليست لقوم دون قوم. ولا لجماعة دون جماعة وإنما هي للدنيا بأسرها وللناس جميعا »وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين« أكد ذلك حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: »إنما مثلي ومثل الانبياء قبلي كمثل رجل بني بيتا فأجمله وزينه وكمله إلا موضع لبنة في زاوية فجعل الناس يمرون ويعجبون ويقولون: لولا هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين« فبين أنه صلي الله عليه وسلم هو المتمم للبناء العظيم الذي قام به الأنبياء ليعلم الناس أن التكامل قائم بين الانبياء وليس التصارع والتنازع ،وأكد وحدة الدعوة بقوله صلي الله عليه وسلم: »أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله«. المرائي التي رآها الرسول في رحلته حين نتمعن وننظر في المرائي التي رآها رسول الله صلي الله عليه وسلم في رحلتيه الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي والمعراج من المسجد الاقصي إلي سدرة المنتهي يقول صلي الله عليه وسلم رأيت رجالا لهم مشافر »شفاه« كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار كالأفهار »قطع الحجارة« يقذفونها في أفواهم فتخرج من أدبارهم .. قلت من هؤلاء يا أخي يا جبريل، قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامي ظلما.. ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط يمرون بسبيل آل فرعون كالإبل المهيومة »المصابة بداء الهيام وهو يكسبها العطش فتشرب ولا ترتوي« حين يعرضون علي النار ببطونهم لايقدرون أن يتحولوا عن مكانهم ذلك. قلت من هؤلاء يا أخي جبريل. قال: هؤلاء أكلة الربا. فالمشهدان يدلان علي حقيقة اقتصادية واجتماعية لايمكن ان تنتظم حياة مجتمع وهما فيه. الأول مشهد الظلم علي مستوي الأسرة والثاني مشهد الظلم علي مستوي المجتمع. وكلاهما يتعلق باقتصاد المجتمع وثروته.. والمشهدان يشتركان في أنهما يدينان الاستغلال والظلم الأول استغلال صغير يتيم لا يقدر علي الدفاع عن حقه. والثاني استغلال ضعيف محتاج مضطر إلي الاستدانة فاستغل المرابي حاجته وألجأه إلي طريق إضيق مما كان فيه تحت ستار حل مؤقت لأزمته. ثم نعود لنسمع في حديث المعراج قول الرسول صلي الله عليه وسلم: رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلي جانبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب. قال: قلت من هؤلاء يا أخي يا جبريل قال: هؤلاء الذين يتركون من أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلي ما حرم الله عليهم منهن. ثم قال: صلي الله عليه وسلم ثم رأيت نساء معلقات من ثديهن فقلت من هؤلاء يا أخي يا جبريل. قال: هؤلاء اللائي أدخلن علي الرجال ما ليس من أولادهم. والمشهدان يشيران إلي وجوب الاستقامة وإذا كان هناك من انحراف سببه توافر المال الحرام فإن هناك انحرافا سببه الفقر والجوع والإسلام يقاوم كلا من الانحرافين ويبني مجتمعه علي أساس من التكافل والتعاون والرحمة والعدل. ثم إن محمداً صلي الله عليه وسلم قد شاهد في السماوات السبع اشياء كثيرة منها انه شاهد في كل سماء نبيا كما شاهد الجنة والنار وأشياء اخري لايدركها البصر ولايحتويها عقل الانسان. وقد فرضت عليه الصلوات الخمس وعلي أمته فكانت أروع هدية يتلقاها نبي كريم من ربه لتكون معراجا تصعد عليه أعمال البشر. فتسمو بأرواحهم ونفوسهم وترفعهم إلي السمو والطهر كلما تدلت بهم شهواتهم. فالصلاة عبادة يشترك فيها القلب والجوارح واللسان. حياة متكاملة شهدها نبينا صلي الله عليه وسلم ترمز إلي التكافل في حياة الانسان المؤمن بحيث تكون رقابته لربه وإنتاجه في المجتمع نابعين من إخلاص صادق وإيمان عميق.