الكل سقط بامتياز ! سمعت من يطالب بالحل الصيني، وتحويل ميدان العباسية إلي »تيان إن من« مصري.. وسمعت من يدعو إلي »غزوة الخليفة المأمون«، واقتحام مقر وزارة الدفاع! هذه وتلك أصوات جنون مطبق، يستحق أصحابها أن يودعوا علي الجانب الآخر من ميدان العباسية حيث »السراي الصفراء«! يوم أمس كان هناك مشهد مؤثر لعله أبرز ما لفت انتباه المتابعين، وسط أحداث الحماقة والعنف والدماء. عند حاجز الأسلاك الشائكة الذي يفصل بين المتظاهرين ورجال الشرطة العسكرية في مدخل شارع الخليفة المأمون.. وقف متظاهر ومجند يتبادلان الحديث عبر لفائف الأسلاك. الأول يسأل عن أحوال الثاني، والأخير يستفسر منه عن صحة والديه. المجند يناشد المتظاهر الابتعاد عن مقر وزارة الدفاع والذهاب إذا أراد الاحتجاج إلي ميدان التحرير.. والمتظاهر يطالب المجند بضبط النفس وعدم اللجوء إلي الرد العنيف حقناً للدماء. الاثنان شقيقان من نفس الأب والأم. الأكبر يقضي الخدمة العسكرية، والأصغر مازال في الدراسة. علي جانبي الحواجز أشقاء من نفس الوطن. لعلهم جميعا كانوا رفاقا يقفون معاً منذ 15 شهراً مضت في ميدان التحرير وغيره من ميادين الجمهورية، يهتفون بصوت واحد من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وينادون بإسقاط النظام. لا أحد يلوم المتظاهر علي حقه في أن يعبر ويطالب ويحتج.. بالهتاف لا بالحجارة أو بالرصاص. وفي ميدان التحرير أو حيثما يريد لكن ليس أمام مقر قيادة الجيش المصري. ولا أحد يلوم المجند علي واجبه في أن يذود ويحمي ويدافع عن رمز العسكرية المصرية.. بالوسائل التي تردع وتمنع، لكن دونما خلط بين التعامل مع أبناء الوطن وبين مواجهة الأعداء في مسارح القتال. ما كان لأحداث العباسية أن تقع، لولا ضيق النظرة، وافتقاد الوعي، وغياب التمييز، وسيادة المصالح الشخصية والحزبية علي مصلحة الوطن. الكل سقط بامتياز! المرشح المستبعد حازم صلاح أبوإسماعيل دفع أنصاره إلي الاعتصام، ثم تخلي عنهم وتبرأ منهم عند أول منعطف، وتركهم في الميدان وبقي في منزله.. كان يمكن لهذا المرشح أن يحظي بتقدير الجميع وربما تعاطفهم، لو أنه لم يكابر، واعترف بحقيقة أن والدته تحمل فعلاً الجنسية الأمريكية، لاسيما أن هذا أمر لا يشينها وليس مسئولا عنه. لكنه تجاهل الحقائق، وانصرف إلي إنكار »التهمة« بأسلوب محام يطعن في إجراءات ضبط موكله وهو يعلم إنه ارتكب الجريمة! قوي الأكثرية دعت إلي الاستفتاء ب»نعم«، علي التعديلات الدستورية، وجاءت اليوم تطالب بتعديل المادة »28«، وهي تعرف أن التعديل لا يمكن أن يتم إلا باستفتاء جديد، وأخذت تشكك في نزاهة الانتخابات الرئاسية قبل أن تتم، وهي تعلم انها ما كانت لتفوز بأكثرية مقاعد البرلمان لولا أن الانتخابات التشريعية اتسمت بالحيدة والنزاهة، وظلت تحرض علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة بدعوي أنه يخطط لتأجيل انتخابات الرئاسة والبقاء في السلطة، برغم انها أكثر من غيرها ادراكاً لرغبة الجيش في ترك الحكم قبل نهاية شهر يونيو المقبل، وإصراره علي اجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها مهما كانت الظروف. لكن غرضها كان الضغط من أجل ارجاء كتابة الدستور، وتشكيل حكومة جديدة قبل شهرين فقط من انتهاء المرحلة الانتقالية، خشية أن يأتي الرئيس الجديد من خارج تيارها السياسي، وأن يصدر حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان انتخاب مجلسي الشعب والشوري، فتخسر عنب البرلمان وبلح الحكم! وكانت النتيجة ان استثمرت دعاواها جماعات فوضوية وتيارات متطرفة وأتباع مرشح رئاسي مستبعد، في تبرير مساعيهم لإلغاء انتخابات الرئاسة والدفع بالبلاد إلي أتون الفوضي. بعض التيارات اليسارية والليبرالية التي تناست ملف الدستور، وانساقت وراء رغبتها في الكيد لجماعة الإخوان المسلمين وظنونها بوجود صفقة مزعومة بين الجماعة والمجلس العسكري، فأصبحت ظهيرا إعلاميا ودعائيا لاعتصام العباسية، وأعطت لأنصار حازم أبوإسماعيل زخما في مطالبهم بالقفز علي القانون والاعلان الدستوري وإعادة مرشحهم إلي السباق الرئاسي! بعض الحركات الثورية اساءت إلي الثورة بأكثر مما أساء إليها أعداؤها، حينما لم تفرق بين الاحتجاج السلمي المشروع وفي المكان المناسب علي أداء أو سياسات المجلس العسكري، وبين اهانة مؤسسة وطنية هي القوات المسلحة، بحصار مقر قيادتها في مشهد أثلج صدر العدو، وأثار حفيظة عموم الشعب ففقدوا تعاطف الجماهير، وتسببوا في تعميم ما ارتكبوه من أخطاء علي الائتلافات الثورية ككل، في أوساط الشارع المصري. المجلس الأعلي للقوات المسلحة كان يستطيع أن يدرأ حصار مقر وزارة الدفاع، لو أنه أصدر قراراً بحظر التجول في محيط وزارة الداخلية فور ظهور شرارة الأحداث منذ شهور وكان يستطيع أن يتجنب أحداث أول أمس، لو أنه بادر بإعلان حظر التجول في منطقة الخليفة المأمون والعباسية فور ورود أنباء عن اعتصام الأربعاء الماضي أمام وزارة الدفاع. كان يستطيع أن يقطع الطريق علي من يريدون ضرب العلاقة بين الجيش والشعب، لو أنه بادر مبكراً بالإعلان عن المتهمين من العسكريين في أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، وعن العقوبات التي صدرت بحقهم. وكان يستطيع أن يحسم الشائعات المغرضة التي ترددت عن نيته في إرجاء انتخابات الرئاسة وتمديد الفترة الانتقالية، لو أن المؤتمر الصحفي الناجح الذي عقده ثلاثة من أعضاء المجلس الأعلي يوم الخميس الماضي، قد تم قبلها بأسبوع علي الأقل. وزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية، كان بمقدورها حقن الدماء التي سالت يوم الأربعاء الماضي لو قامت بواجبها في تأمين المعتصمين بميدان العباسية في ذلك اليوم، وكان بمقدورها تجنيب البلاد مظاهرات الجمعة الحزينة والاشتباكات التي جرت بسببها، لو أنها سارعت بالقبض علي البلطجية الذين اعتدوا علي المتظاهرين، فهي تعلمهم فردا فردا، فضلا عن أن وجوههم كانت واضحة في الصور المنشورة بالصحف والمشاهد التي بثتها الفضائيات وموجودة تسجيلاتها علي شبكة الإنترنت.. وعلي كل حال الفرصة مازالت متاحة والبلطجية لم يغادروا القطر المصري! .. لكن وماذا بعد؟! أمامنا هدف يجب ألا نحيد عنه وأن تتكاتف كل القوي السياسية والثورية وجموع الشعب من أجل تحقيقه، وهو إجراء انتخابات الرئاسة في موعدها حتي لا ندخل في دوامة أحاديث المؤامرات ونتجنب الانزلاق بالبلاد نحو الفوضي. ولا يوجد في رأيي ما يمنع من بحث إدخال مزيد من الضمانات علي نزاهة الانتخابات الرئاسية، حتي تطمئن قلوب الجميع، مثلما جري منذ أيام بالموافقة علي وجود مراقبة دولية علي الانتخابات حرصاً علي شفافيتها. ليس المهم من سيفوز بالانتخابات.. هل هو مرشح الإخوان أو مرشح إسلامي آخر، أو مرشح ليبرالي أو يساري، أو أي أحد من المرشحين. المهم أن يحترم الجميع اختيار غالبية الشعب، وأن تقف كل القوي بنية خالصة لمساندته في مهمته بالغة المشقة، التي لن يقدر علي حملها بمفرده مهما أوتي من خبرة وإخلاص وجهد. وأظن أن الجماهير التي لم تقبل بحصار رمز العسكرية المصرية، لن ترضي بأن يكون رمز السيادة المصرية وهو مقر الرئاسة، هدفا لنزوات فوضوية، أو نزعات حزبية تريد تقويض الرئيس الذي سيقع عليه اختيار الشعب.