هذه الرواية لا تختصر ذاكرة الجسد فحسب ولكنها تختصر تاريخ الوجد الجزائري!! من وسط ركام المسلسلات التي نفحنا بها التليفزيون في رمضان.. استوقف نظري مسلسل بديع الروعة والكلام واللغة.. ولا عجب في ذلك فكاتبته لا مثيل لها في قدرتها علي الابداع الذي يصل إلي حد الجنون.. حتي أنك تقف عاجزا ومتسائلا.. كيف اتاها هذا الوحي؟ هذه الكاتبة الجزائرية المبدعة في روايتها الشهيرة »ذاكرة الجسد« التي انتجها تليفزيون أبوظبي في مسلسل واخرجه العبقري السوري المخرج »نجدة أنزور« ومثله القدير والرائع الشكل والاحساس الجميل »جمال سليمان« أما الممثلة التي قامت بدور البطلة فمكتوب عنها أنها تظهر لأول مرة واسمها »أمل بوشوشة« وأتوقف طويلا امام أول مرة.. واتساءل.. كيف لأول مرة وأنا أراها كما لو أنها خلقت لتمثل.. من الذي دربها وجعل لها هذه القدرة الرائعة علي الأداء.. ولو سألت أحلام مستغانمي عن »حياة« بطلة روايتها لقالت إن أمل بوشوشة قد خرجت من بين صفحات الكتاب ولأقسمت بأنها هي حياة بطلة »ذاكرة الجسد« أما »ريم حنا« كاتبة السيناريو وكلمات أغاني المقدمة.. فماذا اقول عنها.. لقد عشقت العمل وتجسدت حية أمامها الشخوص حتي لتشعر أنك أمام اسطورة من اساطير الأغريق أو اليونان القديمة لقد جعلني هذا العمل أؤمن بأن الابداع العربي مازال موجودا وممكنا وله مكانة بعد ان فقدنا الأمل.. وعندما كتب نزار قباني عن رواية أحلام في عام 5991 قال: هل كانت أحلام مستغانمي في روايتها »تكتبني« دون ان تدري لقد كانت مثلي تهجم علي الورقة البيضاء، بجمالية لاحد لها وشراسة لاحد لها وجنون لاحد له!! هذه الرواية لاتختصر ذاكرة الجسد فحسب ولكنها تختصر تاريخ الوجد الجزائري والحزن الجزائري والجاهلية الجزائرية التي آن لها أن تنتهي!! وعندما أخبر »نزار« صديق عمره »سهيل إدريس« رأيه في رواية »أحلام« قال له: لا ترفع صوتك عاليا.. لأن أحلام إذا سمعت كلامك الجميل عنها فسوف تُجنّ.. فبماذا أجاب شاعر العربية نزار قباني قال: دعها تُجن.. لأن الأعمال الابداعية الكبري لا يكتبها إلا مجانين!! الاثنين: اليوم عيد.. كل عام وأنتم بخير!.. وكما هو معروف أن للاعياد بهجتها وفرحتها!! وكان من أسباب هذه البهجة التي ولدت معنا عندما جئنا إلي الحياة هي »العيدية«! وكانت علي أيامنا قطعا من النقود »الفضية«!.. وعليها صورة الملك فاروق! وعرفنا قبل ذلك قرش السلطنة.. وهو القرش »المخروق«! وهذه العملات تبدأ بالمليم.. ثم بالنكلة.. وبعد ذلك بالتعريفة وهي قطعة معدنية وتحمل اسم »السلطنة« المصرية.. عندما كان لقب حاكم البلاد هو السلطان! ولو الأمر بيدي لاعدت التداول لهذه العملات المعدنية.. وكانت من الفضة الخالصة.. وقيمتها فيها ابتداء »من المليم« المخروق.. ثم النكلة.. ثم التعريفة.. أي نصف القرش الصاغ.. وبعد ذلك القرش الصاغ!.. وكنا نشتري بهذا القرش الكثير.. حلاوة طحينية.. أو جبنة.. وفول سوداني.. أو شيكولاته.. أو ملبس وهو أحد أنواع »الكرملة«! وقد شاع هذا الاسم »الكرملة« لأن البائع السريح الذي هو يطوف بالشوارع والحواري والأزقة.. كان يصيح بهذا القول وهو »يا كرم الله«! ولكن العامة من أبناء الشعب استسهلوا ان يقولوا »كرملة« بدلا من يا كرم الله!! عملة السلطنة المصرية الفضية كانت تبدأ بالمليم السلطاني.. ثم »النكلة« وهي اثنين مليم.. ثم التعريفة أي نصف القرش الصاغ ثم القرش الصاغ!.. وعليها مكتوب اسم.. السلطنة المصرية..! وكان أول السلاطين بعد عصر الخديو إسماعيل ومن قبله الخديو سعيد.. ثم الخديو عباس الأول بالخديو سعيد، ثم الخديو اسماعيل، وبعد ذلك نجله الخديو توفيق.. ومن بعده الخديوي عباس حلمي الثاني!.. ثم بدأ عصر السلطنة وكان أول السلاطين هو السلطان فؤاد الأول، وهو أول وآخر السلاطين الذين كان آخرهم هو السلطان حسين كامل نجل الخديوي إسماعيل.. وتولي من بعده الخديو توفيق، ثم بدأ عصر الملوك ابتداء من الملك فؤاد نجل الخديوي إسماعيل، ومن بعده نجله الملك فاروق! ثم اسقطت حركة الجيش المصري في 32 يوليو عام 2591 كل ذلك.. واصبحت أسرة محمد علي باشا الكبير في خبر كان.. وكان آخر ملوكها.. هو ذلك الطفل المسمي بأحمد فؤاد علي اسم جده الملك أحمد فؤاد الشهير بالملك فؤاد الأول! وهذه العائلة تبدأ بالوالي محمد علي باشا الكبير.. ثم ابنه إبراهيم باشا،ثم عباس الأول.. فعباس حلمي الثاني، فالسلطان أحمد فؤاد، ثم صار ملكا بعد ذلك وجاء بعده ولده فاروق، ثم ابن فاروق الملك أحمد فؤاد الثاني. وكانت للعملة المصرية المصنوعة من الفضة الخالصة بهجتها الجميلة قيمتها الأجمل.. لأن لمعان معدن الفضة.. لا يقل فرحا عن لمعان الذهب!.. وكل هذه العملات كانت في زمني وتعاملت بها بداية بالمليم.. ثم النصف مليم ثم »النكلة«.. فالتعريفة »خمسة مليمات« فقرش الصاغ »عشرة مليمات« فالواحد بأربعة وهي قطعة معدنية قيمتها قرشان صاغ بعد ذلك الشلن.. خمسة صاغ.. فالعشرة قروش فالريال الفضي في عصر الملك فؤاد وعصر ابنه الملك فاروق!! ولو كان الأمر بيدي لطلبت من دار »سك النقود« اصدار هذه العملات التذكارية.. وتطرحها للتداول في الأعياد.. حتي تعود للأعياد بهجتها!!.. وكل عام وأنتم بخير. الأحد: بمناسبة مرور »001« عام علي ميلاد نجيب محفوظ مايزال نجيب يستولي علي فكري ووجداني بعد الرحيل!.. وأقول: لو أن الأمر بيدي.. أو انني من أولي الأمر.. لأمرت باقامة »قبة«.. و»منارة« في منطقة الجمالية وهي المنطقة التي عاش فيها نجيب محفوظ.. وجعلنا من خلال رواياته وابداعه أن نعيش فيها جميعا!.. ونجيب حالة فريدة كان ولاؤه كله لهذا المكان!.. وللبشر الذين يعيشون في هذا المكان.. لأن الأماكن هي البشر.. ولانه لا زمان بغير مكان!!.. فلا مكان بلا بشر!! وكان الشاعر القديم يقول: لا يعرف الشوق إلا من »يكابده«.. بمعني انه يعانيه! وانا استطيع ان ازعم أنني من أولئك الناس الذين وقعوا في هوي الأمكنة بما فيها.. من بشر.. وحجر.. وشجر.. وليل وقمر!!.. وأنا مازلت أقول.. واكتب، وأحكي عن الريف.. مثلما قال: وكتب.. وحكي نجيب محفوظ عن منطقة الجمالية بالقاهرة.. عن ناسها.. ومبانيها.. ومقاهيها!.. وفعل ذلك أيضا الراحل الكبير محمد عبدالحليم عبدالله.. الذي وهب عمره الروائي للكتابة عن الريف.. ولكنه لم ينل شهرة الأستاذ الرائد الكبير جدا.. نجيب محفوظ! وأنا في هذا السياق أحكي عن ليالي قريتي القنايات شرقية.. وغناء أفراحها وعادات أهاليها في الأحزان! وكنا في الريف مثلما عرفنا أغاني الفرح.. عرفنا ما يقال في الأحزان وهو »العديد«!.. وأذكر ان المعددة كانت تقود النسوة في كلام الأحزان مثلما يقود المغني »الكروس« في حفلات البهجة والغناء! ومن هؤلاء فنانون تلقائيون.. يقولون بابداع جميل ما يخطر علي البال والخاطر!.. ولانهم موهوبون.. ومحترفون.. نجد ان الكلام في كل مقام يطاوعهم! ويكون ابداعهم التلقائي بديعا.. وبديعا جدا.. لا يخطر علي البال فنجد صاحب الموال يغني ويقول مثلا.. عجبي علي بنت بيضة من عرب سلامات.. لابسة »الحزام« الدهب.. مكتوب سلامات.. وقفت قبالي.. رأفت بحالي.. وقالت يا حبيب سلامات!.. والناس يقولون الله.. وكل يغني علي ليلاه!! ومثلما يغني المغني ويبدع في ليالي الفرح.. كذلك ننشد.. وتبدع.. »المعددة« في حلقات الحزن بكلام »العديد« الذي تقوله المعددة سواء خلف »نعش« الفقيد.. أو في حلقات العديد في منزل الفقيد! والمعددة المحترفة مثل المغني تماما أو المغنية التلقائية.. ولها نفس موهبتها فكنا نسمع ونري.. ونحن صغار في الريف ان المعددة تبدع في كلامها الحزين.. ويعلو صوات المحزونين.. وأهل الميت والجيران بأصوات النحيب!! وأذكر أن احدي المعددات المحترفات.. طلع النهار.. بلا دعوة للذهاب إلي أي بيت.. حدثت فيه حالة »وفاة«.. وكان تسأل.. مفيش خدمات؟! هو جري في الدنيا ايه؟!.. وتسأل باستنكار.. وتقول: والموت علي رقاب العباد!!.. ومثلما نولد.. نموت!!.. ولما يئست »المعددة« من عدم وفاة احد في البلد!! وإذا بأحد الظرفاء في القرية يقول لها من باب السخرية.. »يا خالة غندورة« فيه معزة هاشم الصعيدي ماتت!!.. وإذا بالمعددة.. ترقع بالصوت وتجري، وتملأ الفضاء صياحا.. وصويتا« وكلاما غامضا.. وتهرول نحو بيت صاحب المعزة التي نفقت.. وهي تقول ملثما تقول.. علي الميت العزيز بكلام حزين.. هي تحفظه.. أو ترتجله!.. ولم تخنها موهبتها.. أو احترافها.. ووجد السامعون من أهل الحارة في القرية أن المعددة تقول كلاما غريبا.. والناس يستفسرون عن الذي مات سرا في هذا الصباح!! دون علم.. أو معرفة حتي يقوموا بواجب العزاء.. أو تشييع الجنازة.. والمشاركة في السير حتي المقابر! ولكن المعددة وصلت إلي دار الفقيدة »المعزة« وهي تقول.. وتصيح.. وتعدد مثلما تقول كما لو أن الميت بشر.. لا معزة!.. ولكن بعدما كان الناس في الحارة يسمعون.. كانوا يضحكون من كلمات المعددة في موت الفقيدة »المعزة«. فماذا قالت »المعددة« المحترفة في موت »المعزة«؟!.. قالت وعددت بموهبة فريدة: يا أم »الحجول« الليف.. والوتد جوَّاه.. قومي البسي »قرونك« بلغ العزول مناه!! ماذا اكتب؟ الجمعة: هل الكاتب كائن خارج علي سلطة قانون الطبيعة؟ أم أن الكاتب محكوم بكل القوانين والنواميس الأزلية التي تحكم الكون؟ في البداية أقول: إن عقلي ووجداني وكل مشاعري وتفكيري هي أشبه بجهاز رادار معطل تماما كما لو كان قد اصابته طائرة قاصفة أو عاصفة مدمرة أوقفته عن العمل..، فأنا في كتابة اليوميات أحاول الرسم بالكلمات.. حتي تكون الكلمة لوحة أو صورة.. ولكنني في السياسة أحاول أن تكون الكلمات مثل الطائرات والصوايخ والمدافع.. فالأفكار تكون سريعة.. والكاتب يكون قريب الشبه بالجندي في ميدان القتال! وكنت أقول لنفسي بعد الغيوم الكثيفة يعود للسماء صفاؤها وتسطع الشمس وينتشر النور من جديد.. وهذا قانون طبيعي.. ولكن المحنة تكمن في السؤال وهو: هل كاتب اليوميات يستطيع ان ينافس جهاز التليفزيون وهل يوجد من القراء من ينتظره؟ والمشاهد يفضل المشاهدة لحظة بلحظة!! وكل ما يستطيع ان يقدمه من كلام صار ذكريات هي أشبه بالتاريخ، والفرق بين الصحافة والتليفزيون هو أشبه بالفرق بين صانع الحلوي أو الكعك والبسكويت.. والخباز في الفرن.. فالأول لا يحتاجه الجائعون إلا بعد انتهاء الطعام أما الثاني فهو الخباز هو المطالب بالسرعة ليأكل الناس في كل حين، بقي أن أقول فيما يشبه السؤال.. هل استطيع ان اتجاوز الاحداث الرهيبة في هذا العالم؟ مشاعري لا تطاوعني وكذلك عقلي ووجداني.. فالمحنة هي عدم القدرة علي تجاوز الحدث.. والمحنة الأصعب.. هي.. ماذا أكتب والناس يشاهدون؟