المحبة والتسامح والتواصل الإنساني.. جوهر الأديان السبت: هذا الزحام الشديد في شوارع القاهرة أصابني بالدوار كنت في طريقي إلي »وكالة الغوري« بشارع الأزهر، فلم أجد وسيلة للوصول إلي هناك سوي السير علي الأقدام. ووجدت نفسي أعبر ميدان العتبة الخضراء قبل الدخول إلي شارع الأزهر. انه الهول العظيم.. ويوم »الحشر«! كل أنواع وسائل النقل تسد الطريق.. ابتداء من الوسائل البدائية حتي أحدث سيارات الركوب.. المارة يرتطمون بعضهم بالبعض الآخر، لأنه لا يوجد مكان لهم علي الأرصفة أو في نهر الشارع. لم أكن قد مررت بتلك المنطقة منذ بعض الوقت، ولذلك شعرت بأن القاهرة ليست هي المدينة التي أعرفها.. والناس ليسوا هم الذين اعتدت ان أراهم. لا يوجد نظام أو قانون أو عرف يحكم الشارع بمن فيه: من المشاة إلي راكبي السيارات والموتوسيكلات والشاحنات والدراجات وعربات الكارو والحنطور. ويستطيع أي مواطن ان يفعل ما يشاء، مثلا: ان يستولي علي قطعة من أرض الشارع ويعتبرها من ممتلكاته ويغلقها بسلسلة ضخمة حديدية حتي لا يسمح لغيره باستخدامها في غيابه»!« ويستطيع صاحب سيارة ان يقف في أي مكان، ويترك سيارته في الصف الثاني أو الثالث أو في عرض الشارع.. فلا تسمح المسافة المتبقية من الشارع سوي بمرور سيارة واحدة بدلا من اثنتين أو ثلاث.. مما يؤدي إلي اختناق حركة السير لساعات طويلة. بل اني رأيت مواطنا يركب حصانا ويتنزه علي ظهره في عرض الطريق.. ويعطل حركة المرور..! كل شيء مباح.. وكل الغرائب يمكن ان تقع! فوضي وعشوائية وتنطع وانعدام للذوق العام.. ومصلحة الفرد فوق مصالح كل الناس. وشاء سوء حظي ان اتعرض لنفس المحنة في اليوم التالي، بعد زيارة للنائب سيد رستم في منطقة شبرا. وكل ما اخشاه الآن ان تكون مجرد فكرة الخروج من البيت إلي الشارع سببا في اثارة الرعب والفزع في قلبي! أحوال المدن الأحد: المأساة التي تعرضت لها في شوارع القاهرة.. دفعتني إلي الرجوع إلي ما سبق ان قرأته حول المعرض العالمي »اكسبو 0102« في مدينة شنغهاي الصينية. كانت القضية الرئيسية في ذلك المعرض هي: »مدينة أفضل.. حياة أفضل«، وهي قضية بالغة الأهمية لان »الألفية الجديدة هي.. ألفية المدن«، كما يقول كوفي انان السكرتير العام السابق للأمم المتحدة. ففي عالم اليوم - وبالتحديد منذ عام 8002- يعيش أكثر من نصف سكان الأرض في المدن. وفي عام 0402 ستصل النسبة إلي 7.46٪. وفي عام 0591، كانت نيويورك وطوكيو.. المدينتين الوحيدتين اللتين يزيد عدد سكانهما عن العشرة ملايين. والآن توجد في العالم عشرون مدينة يزيد عدد سكانها عن هذا الرقم. والمتوقع ان يزداد عدد هذه المدن. وجاء وقت ظهر فيه تعبير »ميجا.. ستي«، أي المدينة العملاقة -الهائلة الحجم- التي يزيد عدد سكانها عن عشرين مليون إنسان. ومن المدن، التي تنمو بسرعة كبيرة.. نفس المدينة التي استضافت معرض اكسبو »شنغهاي« والتي بلغ عدد سكانها 51 مليون نسمة، كما يزداد عدد سكانها سنويا بمقدار 007 ألف نسمة. ولكن الملاحظ ان معدل نمو سكان المدن الكبيرة.. أكثر في الدول النامية. والمدن الكبيرة تجتذب الناس كالمغناطيس، لانهم يأملون ان يجدوا فيها عملا.. وحياة أفضل. يقول البروفيسور الأمريكي »مايك ديفيس«، خبير المدن ان »مجمل النمو السكاني للبشرية في المستقبل سيكون في المدن، وبشكل خاص في المدن الفقيرة«. والمشكلة هي ان الأحياء الفقيرة والمحرومة هي التي ستنمو بسرعة. وتكشف أرقام الأممالمتحدة ان مليار إنسان يعيشون اليوم في الأحياء الفقيرة من المدن الكبيرة.. وبزيادة سنوية قدرها 72 مليون إنسان. وهكذا تتفاقم المشكلات والأزمات التي تعاني منها التجمعات البشرية الكبيرة.. مثل: عدم وجود بنية أساسية، أو ان هذه البنية غير كافية، مما يترتب عليه مصاعب في مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء.. إلي جانب انعدام الرقابة الاجتماعية والرعاية الصحية.. والظروف المعيشية غير الآدمية، واكوام القمامة والفضلات، وتدهور أحوال البيئة. والمدن تستهلك 57٪ من مجموع الطاقة المنتجة في العالم. وفي الوقت نفسه، فان 08٪ من الغازات العادمة الضارة تنبعث من المدن. ومن هنا ترددت في شنغهاي فكرة ضرورة وضع استراتيجيات مستدامة للمدن العملاقة. وكلمة الاستدامة تعني -هنا- التعامل مع الموارد علي نحو أكثر ترشيدا وعقلانية. وإذا استمرت الهجرة من الريف إلي المدن، بهذه المعدلات الحالية،.. فإن القري ستتحول إلي مناطق مهجورة. والحل الوحيد لهذه المشكلة هو تحسين نوعية الحياة في الريف واقامة المشروعات وتوفير فرص العمل وتطوير البنية الأساسية ورفع مستوي الخدمات بكل أنواعها. اما المدن -المحركات الهائلة للتطور الاقتصادي والاجتماعي- فإنها تحتاج إلي إعادة تخطيط شاملة حتي يمكن ان تصلح لاستمرار الحياة.. ولا تدمر سكانها صحيا ونفسيا وعصبيا.. فهناك الغازات الضارة المنبعثة من حركة المرور والنقل والضوضاء.. ولابد من البحث عن وسيلة لتخفيف وطأة حركة السيارات داخل المدينة، وزيادة الشوارع المخصصة للمشاة فقط، وزيادة مساحات الحدائق والمتنزهات، وايجاد طرق خاصة للدراجات والموتوسيكلات وأوتوبيسات النقل العام. يقول »البرت شبير«، الخبير الالماني في تخطيط المدن، انهم -في بلاده- قاموا بوضع خطة رائدة لكي يكون المسكن ومكان عمل المواطنين والأنشطة الثقافية ووسائل التسلية في أوقات الفراغ.. علي مقربة من بعضها البعض في أحياء معينة حتي تقل الحاجة إلي استخدام وسائل النقل. كنت لا أزال أحلم بالنتائج الرائعة التي ستحققها مثل هذه الخطة الرائدة ولو في المستقبل البعيد.. لولا انني افقت علي تصريح اضافي للخبير الألماني.. أصابني بالفزع. يقول »البرت شبير« انه يخطط حاليا لإجراءات توسيع مدينة القاهرة لكي تتسع لمليوني ساكن جديد!! .. وشعرت بانني علي وشك الاغماء!! رسالة حضارية الاثنين: في مركز ابداع قبة الغوري، شاهدت عرضا في مهرجان »سماع« الدولي للانشاد والموسيقي الصوفية في دورته الثالثة. ذروة الاستمتاع الذهني والروحي والنفسي ان تشاهد فرقا غنائية من دول مختلفة »11 دولة« تشدو معا من أجل المحبة والتسامح والسلام. وكان الفنان »انتصار عبدالفتاح«، مدير مركز ابداع ورئيس المهرجان، علي حق عندما قال لي وهو يوجه لي الدعوة للمشاهدة: »سوف تستمع إلي معزوفة كونية تعبر عن روح وثقافات الشعوب وهي تنصهر وتتوحد في لحظة إنسانية واحدة«. في هذا المهرجان، سمعت انغاما صوفية تستلهم عبق التاريخ، وتعبر حواجز اللغة والحدود الجغرافية. مقامات نادرة وموسيقي فولكلورية تتناغم وترتقي بالحالة الإنسانية وتفتح آفاقا رحبة للتواصل البشري. كما لو كانت اصوات من السماء تنقل الينا رسالة في قالب تراث فني وثقافي وحضاري وروحي أصيل، وتوجه انظارنا وعقولنا وقلوبنا إلي المعني الحقيقي للفن الراقي. مدائح وموشحات علي ايقاع موسيقي أخاذة، وفي إطار لمسات فنية موحية تجدد القوالب القديمة.. وتطهر النفوس من الشوائب والادران. الصوفية هي مفهوم روحي مقدس يرتكز علي أساس حب الله وهذا لا يحتاج إلي لغة معينة. المنشدون يترنمون بلغة عالمية، ويقيمون علاقة حميمة مع الجمهور. سمعت اهارزيج وأناشيد وأغاني من مصر والسودان والمغرب والهند واندونيسيا واسبانيا.. بعضها بلغات لا نعرفها، ولكننا لم نكن في حاجة لكي نعرفها، لاننا نستطيع -بسهولة- ان نستنتج كل معانيها واشاراتها السامية. وتمتزج أصوات المنشدين الصوفيين بأصوات أفراد فرقة الترانيم القبطية وفرقة أندونيسيا للانشاد وفرقة الترانيم الكنائيسية »اكابيلا«. وها هو المعمار الفريد لقبة الغوري يضفي علي المشهد كله.. جوا من المهابة والقدسية.. ونسمع من الجدران رجع الصدي.. وتصدح ألحان آلتي »السارانجي« و»الكارتيل« الموسيقيتين الهنديتين. كل من قدم هذا المهرجان يستحق التقدير: انتصار عبدالفتاح وكذلك حسام نصار، مستشار وزير الثقافة ورئيس قطاع العلاقات الثقافية الخارجية، والمهندس محمد أبوسعده، مدير صندوق التنمية الثقافية. انتصار عبدالفتاح يريد التأكيد علي ان المحبة والتسامح والتواصل الإنساني هي جوهر الأديان. انه يطلق من القاهرة رسالة الحضارة إلي العالم، وهي رسالة تعبر عن تفرد الشخصية المصرية وايمانها بوحدة الاديان. .. بل انه يوجه رسالة إلي عالم تسوده الكراهية والتعصب الديني الأعمي والغباء والحماقة وضيق الافق والجهل الغوغائي. انها دعوة إلي عالم أكثر تسامحا وأكثر إنسانية. وشعرت وانا استمع إلي أصوات المنشدين بان أصواتهم أعلي وأقوي بكثير من تشنجات عناصر الهمجية والبربرية والتخلف التي تجمعت في شخص رجل يدعي »تيري جونز« ومشروعه المخزي بإحراق نسخ من المصحف في ذكري هجمات 11 سبتمبر 1002. وكل من يقيمون في أمريكا يعرفون ان اتباع هذا المهووس لا يتبي وزون أربعين شخصا في كل أنحاء الولاياتالمتحدة. ... وها هي القاهرة تبرهن، من خلال مهرجان »سماع« الدولي، انها تواصل دورها الحضاري الذي بدأته قبل آلاف السنين، وان رسالتها للعالم.. واضحة وحاسمة وضرورية وحتمية وعاجلة في مواجهة القوي الظلامية المفلسة التي لا تزال تتصور ان لها مكانا أو دورا في الألفية الثالثة. في أعماق الكون الثلاثاء: كنت أتمني ان يتيح لنا القائمون علي شئون الفضاء الكوني ان نعرف ونتابع اخبار المركبة »فويجر-2«. وقد لا يعرف الكثيرون ان هذه المركبة قد تم اطلاقها من »معمل الدفع النفاث« التابع لوكالة »ناسا« الأمريكية أثناء فترة رئاسة الرئيس الديمقراطي الأمريكي جيمي كارتر، وانها مازالت تؤدي مهمتها في الفضاء منذ ذلك الوقت حتي الآن! وحتي أول شهر يوليو الماضي.. امضت المركبة 21 ألف ليلة وليلة في الفضاء وقطعت مسافة تتجاوز 12 ألف مليون كيلومتر منذ اطلاقها في العشرين من اغسطس عام 7791 »منذ 33 سنة«. لقد وصلت المركبة إلي مسافة 41 ألف مليون كيلومتر من الشمس ولامست اطراف خيوط جاذبيتها والفقاعة الهائلة التي تطوق بها الشمس نظامها الكوكبي. »فويجر -2« هي أول جسم ينطلق من الأرض ويتمكن من عبور النظام الشمسي كله والخروج من أسر جاذبية النجم - المركز لهذا النظام- أي الشمس - وقد اكتشفت البقعة السوداء الكبيرة علي »زحل« ورصدت رياحا تهب بسرعة 054 كيلو مترا في الثانية. وهناك من يتساءل عما إذا كان هناك احتمال للاتصال بين حضارة البشر واحدي حضارات الكون عن طريق هذه المركبة. المعروف ان فويجر تحمل معها مواد بصرية ونصوصا مكتوبة بلغة الارقام تروي حكاية الحضارة الإنسانية منذ ظهورها حتي الآن.. بطريقة يمكن ان يدركها سكان كواكب اخري »ان كان لهم وجود«. المهم ان فويجر-2 »إلي جانب »فويجر-1« التي اتمت 21 ألف يوم فضائي في 31 يوليو الماضي وقطعت مسافة 22 مليار كيلومتر« مازالت ترسل اشاراتها إلي الأرض وقد تكشف لنا في المستقبل القريب عن أسرار جديدة عن هذا الكون. ومتابعة رحلة هذه المركبة وشقيقتها.. متعة كبري.. ولكن يبدو ان هناك من يهتم بالمسلسلات التليفزيونية أكثر من اهتمامه برحلات الفضاء.. واستكشاف اكون!