قد تكون الرحلة اليومية لعودة الموظفين لمنازلهم من مقار أعمالهم تمثل عبئاً كبيراً للسواد الأعظم من شعب مصر رجالا ونساءً كونهم يعانون الأمرين في البحث والانتظار ثم التكدس داخل وسيلة المواصلات والتي ليست بالضرورة تقلهم إلي منازلهم : فقد تقلهم إلي مكان آخر ومنه يستأنفون رحلتهم عبر وسيلة مواصلات أخري . وقد تقلهم إلي مكان مجهول نتيجة قيام السائق بمخالفة خط السير كالعادة . وقد تقلهم إلي آخرتهم حيث يلقون حتفهم أو إلى المستشفي نتيجة رعونة السائقين و سوء حالة الطرق وغياب تطبيق قوانين المرور ولكن بالنسبة لشريحة أخري من المجمتع ممن يملكون سيارات خاصة -وهي شريحة ليست بقليلة خصوصاً وبعد تخطي عدد السيارات الخاصة (الملاكي) والتي تسير في شوارع القاهرة حاجز الخمسة ملايين سيارة- أصبحت رحلة العودة تمثل عبئاً جسدياً وذهنياً ونفسياً ومادياً أيضاً . وبما إنني أنتمي لهذه الشريحة وبما إني أعمل في وسط البلد ومحل سكني في مدينة العبور فقد ترتب علي ذلك قيامي بقطع أكثر من ثمانين كيلو متراً يومياً نصفها في رحلة العودة وحدها تمتلئ بالعديد من الظواهر والتي سأحاول بقدر الإمكان عدم الإسهاب في سردها كونها تعكس حال مجتمعنا وتلقئ الضوء علي الكثير من السلبيات التي أصبحت تغلفه وتعتصره . إليكم أبرز هذه الشواهد : المرحلة الأولي : النزول من مقر العمل بشارع القصر العيني متجهاً إلي ميدان عبد المنعم رياض حيث توجد ساحة انتظار السيارات وخلال هذه المسافة والتي أقطعها مترجلاً أعبر شوارع وميدان التحرير والتي تمتلئ بإشارات ورجال مرور كل همهم تنظيم مرور السيارات دون النظر بعين الاعتبار للمشاة . ثم استخدم أنفاق مترو أنفاق القاهرة للهروب من هذه الفوضي والتي تقودك بدورها إلي الأعلي مرة أخري وفي النهاية أصل إلي ساحة الإنتظار لأجد سيارة واقفة خلف سيارتي تمنعها من الخروج وبمجرد محاولتي لدفعها تجد من يأتي ويدفعها عنك كي يأخذ منك الأتاوة اليومية والتي لا تمت بصلة للرسوم التي أدفعها يومياً نظير انتظار السيارة . المرحلة الثانية : الخروج من ساحة الانتظار وتشغيل الراديو علي محطة نجوم اف أم أو راديو مصر واتخاذ القرار اليومي الصعب . أيهما أستخدم للوصول لشارع صلاح سالم نفق الأزهر أم كوبري السادس من أكتوبر؟! فلو اليوم كان يوم الأحد يكون اتخاذ القرار سهلاً جداً حيث انه يوم عطلة أغلب متاجر وسط البلد وبالتالي يكون الطريق نحو نفق الأزهر مفروشاً بالورد . أما باقي الأيام من الاثنين وحتي الخميس فكلها سواء .. نفترض أن اليوم هو الأحد وقررت استخدام نفق الأزهر ... السرعة المكتوبة المقررة للسير داخل النفق خمسين كيلو متر والواقع إنه من يبطئ سرعته عن سبعين او ثمانين كيلو يتعرض لوابل من أبواق السيارات والأضواء المبهرة من القادمين من خلفك مسرعين وهناك لافتة مكتوب عليها النفق مراقب بالرادار . الغريب إنني ارتاد هذا النفق من أكثر من عشر سنوات..ودائماً تكون سرعتي بطبيعة الحال أعلي بكثير من خمسين كيلو وكل سنة عندما أجدد الرخصة لا أجد أي مخالفات ولذلك فقد تأكدت إنه لا يوجد رادار، والسيناريو البشع يحدث حين تتوقف سيارة نتيجة عطل بداخل النفق وهو ما يؤدي إلي تعطل حركة السير تماماً . أما عن بقية الأيام وفي حالة ما قررت استخدام كوبري السادس من أكتوبر والذي يستغرق صعوده أكثر من عشرة دقائق نتيجة لضيق الطريق الصاعد للكوبري وهو ما يمثل عنق زجاجة وبمجرد اجتيازه تصبح مسألة وقت حتي تقطع الكوبري مروراً بميدان رمسيس ثم غمرة حتي العباسية ثم نزولاً لطريق صلاح سالم والملفت للنظر هو كم الإعلانات التي تستهدف مرتادي الكوبري والتي في أحياناً كثيرة تتسبب في حوادث . المرحلة الثالثة : بعد الخروج من النفق أو النزول من الكوبري يحين موعد آذان صلاة العصر وهو ما أفضل سماعه بصوت المرحوم محمد رفعت علي إذاعة الشرق الأوسط وعندها ونتيجة لأعمال أشغال الطريق أمام أرض المعارض بمدينة نصر يضيق الطريق جداً مما يؤدي لازدحامه وفي هذه المرحلة ونتيجة لبطء حركة السيارة يبدأ النوم يداعب جفوني وكأنها ستائر تريد أن تنسدل ولا يكون هناك حل أمامي سوي التحدث مع نفسي بصوت مرتفع حتي لا أنام وأتابع السير مروراً بعمارات العبور ثم نفق العروبة ويتبعه الزحام اليومي لصعود كوبري الجلاء ثم نزولاً مروراً بمستشفي الجلاء ومساكن شيراتون حتي صعود كوبري الكلية الحربية نزولاً بطريق السندباد ومحاولة اجتيازه نتيجة لتكدس السيارات لدخول مصر الجديدة . المرحلة الرابعة : بعد الانتهاء من طريق السندباد صعوداً لكوبري الهايكستب يبدأ طريق مصر الإسماعيلية وهو ما يمثل بداية نوع جديد من المعاناة . في منتصف الطريق عند موقف العاشر من رمضان يتم بناء كوبري علوي أدي إلي شلل تام للسيارات القادمة في الاتجاهين وهو ما أدي لظهور باعة جائلين في تلك المنطقة يقومون ببيع أعلام مصر أثناء مباريات المنتخب الوطني . وأعلام الأهلي والزمالك أثناء مباريات الدوري العام والكأس . وبيض بلاستيكي ملون في شم النسيم . وفوانيس صيني عند حلول شهر رمضان . وأقلام ووأدوات مكتبية عند بداية العام الدراسي . واكسسوارات سيارات بمختلف أنواعها .. وبعد نجاحك في اجتيازهم جميعاً ... يكون الدور علي بائعي النعناع والليمون . وعند اجتيازهم جميعاً يزيد معدل السرعة علي الطريق لتجد حولك ديناصورات النقل والميكروباصات وهم يأكلون الطريق أكلاً وتأمل أن ينجيك الله من بين أنياب عجلاتهم . المرحلة الخامسة والأخيرة : الإتجاه يميناً نزولاً في نفق العبور مروراً بكارفور العبور وقطع ما يزيد علي ثلاثة عشر كيلو في اتجاه مدينة العبور لتجد نفسك في آخر الطريق أمام لوحة ضخمة كتب عليها . ابتسم أنت في مدينة العبور . وعندما حاولت الابتسام لم أعرف من هول ما عانيته حتي أصل لمدينة العبور حيث أسكن وأتوقف أمام أحد المحال لشراء احتياجات المنزل والتي كتبت علي ورقة صغيرة أضعها في جيبي لتعينني علي تذكرها كوني أصاب بفقدان جزئي في الذاكرة بعد هذه الرحلة الطويلة والتي تستغرق حوالي الساعتين وعندما أصل للمنزل أحمد الله إني وصلت سالماً واجتزت كل هذه المعوقات راجياً من الله أن لا يحدث شئ يجعلني مضطرا لتكرار تلك التجربة خروجاً من العبور حتي سطوع شمس يوم جديد لبداية رحلة جديدة تسمي الخروج من العبور .