شرع الله تعالي رحمته لعباده، شرع لرحمته بالإنسان طرقا كثيرة، ورخصا عديدة في العبادات فشرع التيمم في الطهارة، والافطار للمسافر ومن به عذر، والقصر والجمع والتخفيف في الصلاة، يقول صلي الله عليه وسلم: »إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق علي أمه«. ومن تعاليم الرسول صلي الله عليه وسلم التي تداركت الانسان بالرحمة، وخلصته من التردي في المعتقدات الفاسدة، أو العدوي المهلكة، من تعاليمه في ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: »لا عدوي ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد«، فقد نفي هذا الحديث أمورا رحمة للعقيدة: »لا عدوي« أي لا تؤثر بذاتها بل بإرادة الله تعالي، »ولا طيرة« أي لا تشاؤم بالطير فإنه لا يعلم الغيب إلا الله، و»لا هامة« نفي لما كانوا يعتقدونه قديما وهو تمثل روح القتيل بطائر للأخذ بالثأر، »ولا صفر« حيث كانوا يتشاءمون منه فلا يتاجرون ولا يتزوجون فيه، ثم أمر بعد ذلك بالفرار من المجذوم، والجذام مرض يتغير منه الجلد ويتناثر، وهو يعدي بمجرد القرب منه، وبهذا كان الاسلام له فضل السبق علي النظم الصحية في تقرير قواعد الحجر الصحي، وأما ما ثبت من انه صلي الله عليه وسلم أكل مع مجذوم، فذلك ليبين ان الله هو الذي يمرض ويشفي وبيده كل شيء، أو لعله ألهم انه لن يصاب بشيء، وفي فعله تنبيه علي ان العدوي لا تنتقل بنفسها بل بفعل الله. كما وجه الله تعالي عباده إلي الرحمة بالوالدين، قال تعالي: »واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا« (الإسراء: 42). ووجههم إلي الرحمة بالأولاد، فمما ثبت في ذلك: أتي أبوبكر عائشة وقد أصابتها الحمي فقال: كيف أنت يابنية؟ وقبل خدها. وتقبيل الرسول صلي الله عليه وسلم للحسن والحسين. وأما رحمة الأقارب فقد روي عبدالرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: »يقول الله تعالي: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته«. وفي هذا الحديث تكريم للرحم، حيث اشتق اسمها من اسم الله »الرحمن« الذي يفيد الاتصاف بالرحمة البالغة، ثم بين ان من وصلها وداوم علي برها أدام الله عليه رحمته ومن قطعها »بتته« أي قطعته، وحكم صلة الرحم أنها واجبة وقطعها من الذنوب الكبيرة، والرحم منها القريب غير المسلم وقد أجاز الاسلام صلته للرحم التي يرتبط بها، ومن وجوه صلة الرحم: ما يكون بالمال، أو قضاء المصالح. ومن ثمراتها: البركة في العمر وفي الرزق. والحديث بهذا يفتح للرحمة أبوابها ليقبل أهل الخير علي صنائع المعروف والبر، وتتسع جوانب الرحمة حتي تشمل الجار، والضيف، والعمل، والقول، وفي هذا يقول الرسول صلي الله عليه وسلم: »من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته«، قالوا: وما جائزته يارسول الله؟ قال: »يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل أن يثوي عنده حتي يحرجه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت«، وتتجلي الرحمة بالجار والضيف في قول الخير عند من آمن بالله واليوم الآخر، وفي تعبيره بقوله: »ومن كان يؤمن« لاثارة باعث الخوف والأمل وتعظيم شأن هذه الحقوق، والجار هو: القريب في المسكن، واكرامه بالاحسان إليه، ومنع الأذي عنه. أما الضيف: فهو كل من نزل علي غيره، واكرامه حسن تلقيه وتقديم التحية اللائقة به. أما الجائزة: فهي مدة اجتياز الضيف من مرحلة إلي أخري وهي يوم وليلة، وأما قول الخير: فيكون بضبط اللسان وامساكه إلا ما كان في الخير ويترتب علي هذه الأصول غرس الرحمة والمودة في قلوب المسلمين. وقول الخير يرمز إلي الحق المتعلق بالله، واكرام الجار والضيف يرمز إلي حق الناس، وبهذا يتضح سر الاقتصار علي الأمور الثلاثة. وتتسع جوانب الرحمة أكثر فتشمل جميع المؤمنين، وتكون منهم جسدا واحدا يحس كل منهم باحساس الآخر، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: »مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي«. وفي هذا تشبيه لحال المسلمين وهم في توادهم أي: تواصلهم وتبادل المودة بينهم، وفي تراحمهم وتعاطفهم بحال الجسد الواحد في تأثر سائر الأعضاء بما يحدث لبعضها، ذلك لما يجمع بينهم من رابطة الايمان: »إنما المؤمنون اخوة« هذه الرابطة هي أساس الرحمة الشاملة التي جعلت كلا منهم يحس بإحساس أخيه كما قال صلي الله عليه وسلم في صفة هذه الرحمة الشاملة وهذا التعاون العظيم: »المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا«.