أتأمله! أغوص في قدرته الهائلة علي الحب والحرية. ألتقط رسائله عن بعد، أحاول فك شفرتها. هل منح الخالق العظيم ذلك الكائن الضئيل كل هذه القوة؟! هل جعل منه رمزا للروح المتوثبة بالحياة.. للإرادة المعجونة بالحرية، للصوت المغرد بالحب؟! أتأمله! ففي اللقاء بالطبيعة تلتقي مع الله، تحيطك معجزاته بالحب واليقين. فالطبيعة تلخص فلسفة الكون، وتغمرنا بأسراره. عصفور يغرد، ينطلق بحرية من غصن شجرة إلي غصن آخر. إنه عصفور يملك الكون لأنه يملك الحرية. نبرة صوته قوية، صافية، نافذة. أقارن بين صوت عصفور الطبيعة. عصفور الحرية الذي يعيش الفطرة، كما خلقه الله تعالي، وبين عصافير الزينة التي نعتقلها في أقفاص جميلة، وندللها بالطعام الجاهز، والمياه في مكانها بالقفص. عصافير لا تسعي للرزق، هو الذي يسعي إليها! إنها العصافير أصحاب الحناجر المكبلة والنبرات المعتقلة. أصواتها مخنوقة، فقدت جمالها. لم تعد تلك العصافير تحلق، لم يعد تغريدها يشرح القلوب! في ذلك الكائن الضئيل أودع الله تعالي بعضا من أسراره، وكثيراً من رسائله إلينا نحن بني البشر: الحرية أغلي من الخبز أحيانا، الحب هو إكسير الحياة، السعادة لا يؤمنها المال، ولا يضمنها الجاه. فالثروة الحقيقية موجودة داخلنا، علينا فقط أن نبحث عنها، أن نجذبها من جذور أعماقنا! السعادة نسمعها في صوصوة عصفور طليق، ونراها في تأمل سحابة بيضاء تسبح فوق خلفية زرقاء لسماء صافية. إنها رسائل ربانية. البعض منا تستطيع أجهزة استقباله إلتقاطها وتأملها، لكن الكثير منا لا يستطيع! الكثير منا أصابته الحياة الحديثة بتكنولوجياتها المتقدمة بما تشبه الصمم. اخترقت المدنية إنسانياتنا، وسدت مسام مشاعرنا! وفي هذا الشهر يمنحنا الخالق العظيم فرصة ذهبية، ثلاثين يوما من التطهر. شهراً كاملاً نغسل خلاله قلوبنا وعيوننا من شوائب المادية والأنانية. فترة راحة من الرغبات القاتلة، والطموحات الجامحة. مرحلة انتقالية نسافر أثناءها إلي سويداء القلب، أعمق أعماقنا، نفتش عن الخير الكامن هناك، ننقب عنه بإخلاص، ونستخرجه من داخلنا بحرص وخوف. شهر رمضان.. شهر الصفاء وتنقية الحواس العظيمة التي منحنا الله أياها كأغلي ثروة لا تشتريها أموال الدنيا لو ضاعت إحداها أو تعطلت عن العمل. البصر والبصيرة . الرؤية والتأمل. المشاعر والإحساس بغيرنا من كائنات الله. اليوم يمنحنا الله تذكرة خاصة للإبحار داخل أنفسنا.. والقيام بأعظم رحلة روحانية نلتقي خلالها بأجمل اللألئ المضيئة: الإيمان.. الصدق.. الخير.. والعطاء. كل عام ونحن جميعاً كالعصافير.. لا يملكها أحد إلا خالقها العظيم. خالق الكون.