• زواج يدق جرس الباب.. تستقبله والدة خطيبته بابتسامة شديدة.. ترحيب زائد.. تشير إلى الصالون لينتظر فيه.. يضطجع على الكرسى.. يتأمل ما حوله.. يتنهد فى حزن.. يتذكر كيف فشل فى خمس خطبات من قبل.. هذه هى السادسة.. دائماً ما يتهمونه بالتفكير المحدود.. لكنه واثق أنه على صواب. يفيق على صوت انثوى رقيق.. إنها خطيبته تقف بجوار والدتها.. بهية المنظر.. آية فى الجمال.. الترحيب لا يتوقف.. بينما لا يخرج من فمه سوى الردود التقليدية.. يصمت برهة.. شعرت الأم بثقل تواجدها فى المكان.. أعلنت الخروج للاتيان بالمشروب. أخذ يتأمل وجه خطيبته.. جمال باهر.. لكنه يعلم أن الجمال ليس كل شىء.. لا يكفى لبناء حياة زوجية.. حاولت كسر الصمت بالسؤال عن أحواله.. ماذا فعل فى الأيام الماضية؟!.. اجاباته يغلب عليها القصر والروتينية.. ينظر إليها.. يطأطئ رأسه باتجاه الأرض فى صمت شديد.. بدأ يساورها الشك والارتياب.. تردد فى نفسها.. «ماذا دهاه اليوم.. إنها المرة العاشرة التى يأتى إلىّ فيها للزيارة بعد الخطوبة.. كل مرة لا يكف عن الحديث عن الحب وجمالى و....». يضع يده فى جيبه.. يسحبها مرة أخرى مردداً فى نفسه «كلا لن أخرجها.. إنها السبب فى فشل الخطبات السابقة» يتنبه لصوتها محدثة إياه برقة بعد أن اقتربت بجواره «ماذا دهاك اليوم؟!».. هل من شىء عكر صفو مزاجك؟! علامات الارتباك تبدو عليه وهو يقول: «كلا.. ولكن..» يصمت برهة.. يرمقها بنظرة ارتياب.. يتنهد سائلا إياها «هل تحبيننى؟!».. ترد باستحياء وقد شعرت أنه بدأ يعود لطبيعته «انت تعلم» يعاجلها قائلا «هل انت متأكدة؟!» يساورها القلق من جديد وهى ترد بتعجب: «نعم».. شعر أنها اللحظة المناسبة.. وضع يده فى جيبه.. اخرج كرة من المطاط أخذت تنظر إليه بتعجب سائلة إياه «ما هذا؟!» يرد والابتسامة تملأ وجهه: «هذا مستقبلنا نحن الاثنين» تحملق فيه باندهاش «ماذا تعنى؟!» ابتسم قائلا: «ستعلمين كل شىء الآن» اخرج مشرطا من جيبه.. زاد القلق لديها.. ابتعدت إلى الخلف أكثر.. ابتسم مشيراً لها بالهدوء وعدم الخوف.. وضع كرة المطاط على المنضدة أمامه.. غرس المشرط فى منتصف الكرة.. أخذ يحركه حركة انبعاجية.. قطع الكرة إلى نصفين كل نصف حوافه أصابها الانبعاج فى أكثر من مكان. لم يكن الذهول والتعجب ليفارقها وهى تنظر إليه.. بينما الابتسامة لا تفارق وجهه كأنما يعمل عملا بطوليا.. أخيراً انتهى.. أبعد نصفين عن بعضهما.. يتنهد قائلا: «يجب عليك أن تفهمى ما سأقوله جيدا.. نحن الاثنان أشبه بهذين النصفين.. ربما تتعجبين من حوافهما غير المستوية.. لكنها الطبيعة الإنسانية التى تتسم بالنقص.. فلكل واحد منا عيوب تختلف من فرد إلى آخر».. يسكت برهة مكملا كحكيم: «الآن دورنا ليعترف كلا منا بعيوبه ليسهل للطرف الآخر الطريق لعلاجها أو افساح مجال فى شخصيته لاحتواء انبعاجات شخصية الآخر.. لتسير عجلة الزواج والحياة على الدرب السليم». أخذت تنظر إليه بنظرات عتاب.. أشاح بوجهه عنها.. ينظر إلى النصفين المبتعدين.. أخيراً نطقت فى حدة «ألا تعلم أنه ليس من الاناقة أن يحدث خطيب خطيبته بأن بها عيوبا».. ابتسم ساخرا وهو يقول: «الخوف أن يتناسى الطرفان كلمة اناقة فى حديثهما بعد الزواج لكثرة الخلافات التى لم يعالجونها فى فترة الخطوبة».. تتأفف قائلة: «لماذا تحاول إظهار نفسك أنك من الحكماء ولم يتحدث أحد ممن سبقونا من المخطوبين بمثل هذه الطريقة».. تتأمل النصفين مكملة فى استهزاء «الهندسية؟!».. تنهد قائلا فى أسى: «يبدو أنك لا تعلمين أن هذه البيوت مليئة بالمشكلات.. يحاول أصحابها اخفاءها حتى لا يظهر فشلهم.. إلى أن يصل ذلك بهم إلى الاضطرار لإعلان الطلاق».. ينظر إليها بتأمل.. يتنهد من جديد مكملا «لذلك حينما فكرت فى الخطوبة بحثت عن المزايا.. لكن عندما اقتربنا من الزواج بحثت عن العيوب».. تحدث نفسها قائلة: «ربما يجب علىّ أن أظهر له بعض الليونة.. لكن يجب علىّ ألا اتخلى عن كبريائى.. حتى لا يظن أننى ضعيفة».. حاولت تصنع الابتسامة وهى تقول: «بالتأكيد توجد عيوب فى كل إنسان.. لكنى لم أر فى نفسى عيباً قط.. ربما كان خافيا علىّ».. تأفف.. كاد الشرر يتطاير من عينيه.. شعرت بالخوف منه.. وضع يده على وجهه مهدئا نفسه.. نظر إليها معاتبا وهو يقول: «أتدرين من هو الكائن الذى يرى أنه لا توجد عيوب لديه؟! إنه الشيطان».. تنهد مكملا: «إن من ينتظر أن يخبره الناس بعيوبه دون الاجتهاد فى البحث عنها.. هو أقلهم تنفيذا للنصيحة». شعرت أن الأمر كاد يفلت من يدها.. حاولت أن تخرج الأمر عن دائرة خطئها قائلة: «لماذا ترى أن كل فشل فى الزواج يكون سببه الزوجان؟!.. ألا تعلم بشىء اسمه الظروف ومتغيرات الحياة؟!».. اضطجع على الكرسى.. شعر بمحاولة هروبها وضعف تفكيرها.. تركها تكمل حديثها عن الظروف الصعبة.. المشكلات.. أخذ يعبث بالنصفين.. ضمهما.. أشار إليها بالكف عن الحديث وهو يقول: «إن هذه كرة من المطاط.. لا تقف عند حاجز.. بل تقفز متخطية إياه.. كذلك الزواج إذا توافق الزوجان». شعرت بحرج شديد.. بغض لمن أمامها.. لقد جرح كبرياءها.. تنهدت قائلة بغيظ.. «ماذا بعد كل ذلك الكلام.. ماذا تنوى أن تفعل؟!» نظر إليها بأسى.. خلع دبلة الخطوبة.. امسكها فى إحدى يديه.. باليد الأخرى النصفيان بعد أن حاول جمعهما.. انطلق قائلا: «ما يصل إليك منهما أولاً سيحدد مصير علاقتنا» قذف بالاثنين على المنضدة باتجاهها.. يتفكك نصفا الكرة فى أول دورة لها.. يدور كل منهما حول نفسه.. بينما تنطلق الدبلة مسرعة محدثة صوتاً من الرنين أشبه بأجراس الخطر. الدموع تنزل من عينها.. ينطلق خارجا من البيت سائلا نفسه بأسى: «هل أنا لم أدر ما معنى كلمة خطبة.. أم أنها لم تفهم معنى كلمة زواج؟!». ** النزول إلى أرض الواقعية الزوجية يحتم على الزوجين وضع العقل والدين فوق كل اعتبار. • مش فاهم بينما أنا عائد من عملى إذ بى أرى وجه الشمس وقد احمر غضبا.. يبحث عن شىء يطفئ به لهيبه.. فلم يجد سوى ماء النيل.. غطس فى الماء معلناً بدء الليل.. لاح فى الأفق من بعيد حشد كبير من الناس.. اقتربت منه.. يبدو أنها استعدادات لمظاهرة.. بدأت قوات الأمن تطوق المكان.. تقترب شيئاً فشيئا.. رأيت من بين الحشود زكى ابن بلدتى.. طويل القامة.. ممتلئ الجسم.. ذا نظرات صارمة.. هكذا كان قبل التحاقه بقوات الأمن المركزى.. أما الآن فقد تغيرت نظراته.. أصبح فاغرا فاه ليل نهار دون النطق بكلمة واحدة.. القيت عليه السلام.. لم يرد.. سألته.. «هل تتذكرنى؟!» لم يلتفت إلىّ.. اخرجت سيجارة.. اعطيتها إياه ليغلق فاه.. دسها فى فمه.. أطبق عليها شفتيه فتغيرت ملامح وجهه.. اشعلتها له.. حاولت جذبه للحديث بطريقة يفهمها.. سألته «شوفت قالوا إيه فى البيت بيتك امبارح؟!» نظر إلىّ محملقاً كأننى قادم من عالم آخر.. اكملت حديثى حامدا الله أنه بدأ يسمعنى.. «ايوه.. وقف مسئول امبارح وقال: إسرائيل أقوى مننا إحنا مش هنقدر عليها.. إسرائيل دلوقت زيها زى الديب.. والواحد يتعامل مع الديب بإنه يسايسه أو يستخبى منه.. وإحنا بنسايسه».. نظرت إليه بقوة سائلا إياه «فاهم يا زكى؟!» هزّ رأسه فى الهواء قائلا.. «لأ مش فاهم» هنا فرحت كثيرا أنه رد علىّ.. اكملت حديثى سائلا إياه بتعجب «مش الديب اللى بيخاف من الكلب ولا الكلب اللى بيخاف من الديب؟! وإسرائيل بتعتبرنا كلاب امال بنخاف منها ليه؟!». رد علىّ بتعجب.. «مش عارف».. سكت برهة.. ثم اكملت متسائلا «ما علينا بس معنى كلام الراجل ده أن كل واحد فينا يشيل كفنه ويجيب خروف وسكينة ويرقد على الأرض ويستنى لما الديب ييجى ويتعطف عليه وياخد الخروف ويتركه؟! فاهم يا زكى؟!» حرك وجهه كبندول الساعة قائلا «لا مش فاهم» حاولت كتمان غيظى وأنا أقول له مكملا.. «طب لو الديب ده مبيحبش أكل الخروف وبيحب أكل البشر.. نعمل إيه؟!» فهمنى يا زكى.. أنا مش فاهم.. هنا سمع زكى صوت قائده وهو يقول «اضرب» فاحمرت عيناه.. وقف جانبا شعره كالقرون وقال «اهو دلوقت فهمت» حمل عصاه طوّحها فى الهواء هابطا بها على أم رأسى مرددا «يا غبى ما تفهم بقى.. انت حمار» حاولت أن أحمى رأسى وأنا أقول له «أفهم إيه؟!» بينما هو لم يتوقف عن الضرب حتى خارت قواى. لم أفق إلا على سرير المستشفى.. اعتدلت فى جلستى وقد غلبنى الحزن.. ليس على الضرب الذى شق رأسى نصفين.. لكن لأن زكى لم يفهمنى ما قد فهم.. وحتى الآن مازالت مش فاهم. ** لن يجد الإنسان صعوبة فى الحياة أكثر من اقتلاع فكرة خاطئة فى عقل ترسخت به.