من لم يقرأ ولو مرة واحدة في حياته أغاثا كريسيتي؟ هذه الكاتبة المدهشة ما زالت تتربع بلا شك على رأس هرم كتّاب الرواية البوليسية. مدهشة لكنها ليست فريدة، ففي روسيا ظهرت خلال السنوات الأخيرة كاتبات اعتبرن «ملكات» هذا الفن الصعب، وهن يوزعن سنوياً ملايين النسخ من الروايات التي لا تكاد تظهر على رفوف المكتبات حتى تنفد بسرعة، إنهن: الكسندرا مارينينا وتاتيانا أوستينوفا وداريا دونتسوفا. بعد «بيريسترويكا» ميخائيل غورباتشوف في ثمانينات القرن الماضي، وانهيار الاتحاد السوفياتي الذي تلاها في العام 1991، شهدت روسيا فوضى دامية، وحال فلتان أدت الى تفشي الجريمة على نحو غير مسبوق، وعادت ظاهرة بطاقات التموين الى الانتشار في ظروف معيشية بالغة الصعوبة، وبدا واضحاً أن المجتمع يعيش حالاً تنذر بالانفجار، ولاح شبح المجاعة والحرب الأهلية التي نجت منها روسيا بأعجوبة. لكن «حروب المافيات» وعصابات الجريمة المختلفة للفوز بمناطق النفوذ عمت كل الأقاليم الروسية، وغدا السير في شوارع موسكو المعتمة والمقفرة خطراً حقيقياً. في تلك الفترة لم تكن ظهرت الواجهات المنيرة للمحلات التجارية الخاصة ولوحات الإعلانات المضيئة العملاقة. ولم يكن من النادر ان تسمع أصوات طلقات نارية تقطع سكون الليل ما يوحي بمعارك دموية تدور في الشوارع. تلك ظاهرة غدت طبيعية، حتى في سان بطرسبورغ. هذه الأجواء التي سيطرت على المشهد في تلك السنوات العشر القاسية، وفرت أرضية خصبة لازدهار فن الكتابة البوليسية. تحديداً في تلك الفترة، في بدايات تسعينات القرن الماضي، بدأت تظهر على رفوف المكتبات كميات هائلة من الروايات الحافلة بالعنف والدم والوحشية، والخالية تماماً من الذوق، ولكن في الوقت ذاته تلقى إقبالاً كثيفاً. لم تكن روايات بوليسية بالمعنى الحقيقي، بقدر ما كانت تحمل رؤية سطحية مباشرة لمشهد القتل والتفنن بإسالة الدماء. وسرعان ما تميز بين هذا السيل من الكتاب، اسم الكسندرا مارينينا التي ولدت في العام 1957، لتغدو مع انهيار الدولة السوفياتية مؤسسة الرواية البوليسية الروسية. ظهرت أولى أعمال مارينينا التي لفتت الأنظار في مجلة «الشرطة» العام 1991، وهذه لم تكن مجرد صدفة، لأن الكاتبة عملت في تلك الفترة في وزارة الداخلية، وكانت وظيفتها دراسة شخصيات المجرمين انطلاقاً من ملفاتهم، وعبر اللقاءات معهم وتحليل أوضاعهم النفسية، وهي قدمت رسالة لنيل شهادة الدكتوراه في هذا المجال. لكن الشهرة الواسعة لمارينينا جاءت بعد نشر سلسلة روايات حملت بطلتها الرئيسة اسم كامينسكايا، وهي ضابطة في سلك الشرطة برتبة رائد، ولم يكن من الصعب إدراك أن كامينسكايا هذه هي نفسها الكاتبة التي تعيد إنتاج تجربتها العملية في رواياتها. في كل الأحوال ذاع صيت «الرائد كامينساكايا» في شكل فاق كل التوقعات، وجاءت روايات مثل «الخوض في الملابسات» و «اللعب على ارض الغير» و «الحلم المسروق» لتضيف اسم بطلة الرواية الى أبطال بوليسيين ذاع صيتهم في كل العالم، وعلى رغم أن أعمال مارينينا لم تعرف طريقها الى القارئ العربي لكنها ترجمت الى لغات عدة وهي توزع حالياً في 25 بلداً. وسرعان ما تحولت أعمالها الى مسلسلات تلفزيونية طار نجاحها الى خارج حدود روسيا فبث في ليتوانيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا. حصلت مارينينا العام الماضي على لقب «كاتبة العقد» وتحتفل الرائد المتقاعدة من سلك الشرطة في العام الحالي بعيد ميلادها الخمسين، وفي مكتبتها اكثر من ثلاثين رواية، تعاد طباعتها سنوياً في شكل فاق كل التوقعات، وهي ترى ان هذا هو زمن الرواية البوليسية، لكن من دون الاقتصار على تصوير الجريمة وتعقب القاتل بل تقديم شبكة علاقات وخلفيات اجتماعية وثقافية، وبعبارة أخرى نقل الحياة العادية الى الورق لأن الإنسان المعاصر برأيها تستهويه ليس عقدة الجريمة نفسها بل ملابسات الحياة أيضاً وفي شكل أوسع، ومهمة الحبكة البوليسية تقتصر على جعل قراءة الحياة اكثر امتاعاً. وعلى خلاف مارينينا تنطلق تاتيانا اوستينوفا وهي من مواليد العام 1968 في كتابتها من الرؤية الكلاسيكية للعمل البوليسي، في شكل يعيد تقديم أغاثا كريستي بهوية روسية. حادثة قتل دموية، ثم تحريات مثيرة تتخللتها مفاجآت، وصولاً الى نهاية لم تكن لتخطر ببال القارئ. اوستينوفا «افضل كاتبات الرواية البوليسية الروسية» بحسب رأي النقاد، كانت تحلم منذ طفولتها بأن تغدو كاتبة، لكنها و «لأسباب عائلية» اتجهت في دراستها العلمية الى تخصص له علاقة بصناعة الطيران، قبل أن تدرك سريعاً ان هذا ليس مكانها المناسب، وبدلاً من العمل في تخصصها، بدأت حياتها العملية مديرة برنامج في إحدى القنوات التلفزيونية. لكنها فقدت عملها سريعاً بسبب الانهيار الاقتصادي عام 1998، بين كثيرين وجدوا أنفسهم في الشارع. فاتخذت قراراً غير مسار حياتها، بعدما استيقظ حلم طفولتها بالكتابة، وعندما انجزت اولى رواياتها، قدمتها الى دار نشر من دون آمال كبيرة، لكن المفاجأة كانت مدوية، إذ لم يكد الكتاب يظهر في الأسواق حتى حققت اوستينوفا شهرة واسعة، وبلغ حجم توزيعه أرقاماً خيالية، وظهرت للكاتبة خلال الأعوام الأخيرة عشرون رواية بوليسية منها «بئر الأحلام المنسية» و «خمس خطوات بين الغيوم» و «فندق الآمال الأخيرة». وحققت كلها أرقام توزيع قياسية. وبحسب قول اوستينوفا فهي قادرة على الكتابة في كل الظروف، وما ان تجلس الى حاسوبها حتى تستغرق ساعات طويلة تنسى فيها كل ما يدور من حولها، ووفقاً لمنهجها الكلاسيكي فهي تضع أولاً خط سير روايتها، رابطة الأحداث والتفاصيل بنقاط مفصلية أساسية، قبل ان تغيب عن العالم لتأخذها الأحداث كيفما شاءت. وبروح النكتة التي ميزت ظهور اوستينوفا في اللقاءات الصحافية تؤكد أن معظم تفاصيل الجرائم التي اخترعتها ظهرت فكرتها الأولى أثناء قيامها بغسل الصحون في مطبخ شقتها. أما داريا دونتسوفا (من مواليد العام 1952) فهي ثالث نجمات الرواية البوليسية الروسية وقصة دخولها الى عالم الكتابة مختلفة بعض الشيء، إذ أقعدها مرض خطر توقع الأطباء أن يقضي عليها في غضون أسابيع، فقررت ان تتسلى بكتابة رواية لم تتوقع ان تجد طريقها الى النشر. ومنذ ذلك الحين مرت أعوام أصدرت خلالها 15 رواية. تقول دونتسوفا إنها «خدعت المرض» لكن الأهم انها غدت اسماً بارزاً في عالم الرواية، وهي تكتب بغزارة قل مثيلها، وتعيش في عالم خاص غدا نادراً هذه الأيام، منزل ضخم فيه عائلة كبيرة وعدد لا يحصى من الحيوانات الأليفة. تؤكد دونتسوفا إنها لا تكتب أعمالاً بوليسية، بل «أدباً نسائياً رفيعاً بحبكة مملوءة بالمغامرات» وأنها تحرص على ان تكون رواياتها «طيبة في عالم شرير، ومرحة في ظروف صعبة» وان تنتهي حتماً ب «هابي اند». وقد جمعت دونتسوفا في أعمالها التشويق والحبكة البوليسية الى المغامرات المحفوفة بالإثارة الجنسية. وتحولت غالبية رواياتها الى مسلسلات تلفزيونية ومنها «النساء القطط – ملف خاص» و «مصيدة باسكيرفيلي» و «مسخ من عائلة راقية». يفسر النقاد الإقبال الكبير على روايات دونتسوفا التي برعت في عالم الصحافة طوال عشر سنوات قبل أن يقعدها المرض بأن قارئاتها يجدن أنفسهن في شخصيات بطلات رواياتها، وإنها تمنح القوة من خلال تركيزها الذكي على ضرورة عدم الاستسلام للمصاعب حتى في احلك الظروف.