في مطلع الألفية الثالثة دارت معركة أدبية ساخنة وطريفة في آن واحد لفتت أنظار كل الأوساط الثقافية والإعلامية في روسيا. اعتبرها الكثيرون المعركة الأهم بعد معركة انهيار اتحاد الكتاب السوفيات وتفككه إلي عشرات الاتحادات، ثم تفكك اتحاد كتاب روسيا إلي عدة اتحادات، منها اتحاد الكتاب الروس واتحاد كتاب روسيا واتحاد الكتاب الروس العالمي. غير أن ما لفت النظر في المعركة الأدبية هي أنها كانت بين اتجاهات وليس أشخاص، علي الرغم من أن أحد طرفيها كان الروائي الروسي فيكتور بليفين الحائز علي جائزة "بوكر 1993" عن مجموعته القصصية الأولي "المصباح الأزرق"، والناقد الروسي بافل باسينسكي الحائز علي جائزة "ضد بوكر 1999" عن 3 مقالات نقدية، بينهما مقالة بعنوان "أمراض بليفين المزمنة". ولد فيكتور بليفين عام 1962 في موسكو. وبعد إنهائه معهد موسكو للطاقة بدأ دراسته بمعهد الأدب إلي جوار العمل علي الحصول علي درجة الدكتوراه في تخصصه العلمي. عمل مهندسا وصحافيا. بدأ الكتابة عام 1987 ونشرت أعماله الأولي في المجلات السميكة والكتب المشتركة. له عدة روايات مثل "تشابايف والفراغ" و"آمون رع" و"السهم الأصفر"، والرواية محل النزاع بينه وبين بافل باسينسكي، والتي فضل أن يكتب عنوانها بالإنجليزية "Generation _ P". وله أيضا عدة مجموعات قصصية منها "إله العالم الأعلي" و"إله العالم الأسفل". صدرت أعماله بالإنجليزية والفرنسية والنرويجية والهولندية والألمانية واليابانية. البعض يقارن بليفين بالكاتب الأمريكي (الروسي الأصل) فلاديمير نابوكوف صاحب رواية "لوليتا" الشهيرة ويعتبرونه أحد مؤسسي القصة الروسية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي. والبعض يراه أكثر الأصوات الأدبية الشابة التي برزت من الحطام حيث يعتمد في بناء أعماله علي تقنيات حديثة ونسج سردي - يراه هذا البعض - لا يمت بصلة إلي تقاليد السرد الروسية، ويعتمد علي مفاجأة القارئ بالتوليف بين الواقع والخيال في عمق فلسفي وجمالي. والبعض الآخر يعتبر بليفين كاتبا سرياليا وأبرز نجم في جيل ما بعد الاتحاد السوفياتي مقارنا إياه بمارتن أميس وفرانز كافكا ولكن في ظروف العصر الجديد، حيث يخاطب الذين يفتحون ملفات الكمبيوتر أكثر من الكتب. ما يحيلنا بشكل أو بآخر إلي فكرة "القطيع الإلكتروني". أما بافل باسينسكي فقد ولد عام 1961 بإقليم فولغوغراد. درس بقسم اللغات الأجنبية جامعة ساراتوف. وفي عام 1980 حاول الالتحاق بمعهد مكسيم غوركي للآداب، لكنه فشل وعاد مرة أخري إلي ساراتوف. وبطبيعة الحال ظهرت آثار هذا الفشل في بعض أعماله السردية في العدد التاسع من مجلة أكتوبر عام 1997. وبعد عام نجح باسينسكي في الالتحاق بالمعهد. وبدأ دراسته في قسم النقد. وحصل علي الدكتوراه في موضوع "غوركي ونيتشه" وأصبح مدرسا بنفس المعهد. ارتكز معظم محاضراته بمعهد غوركي علي سلسلة من المحاضرات الهامة عن إبداعات مكسيم غوركي. وفي بداية تسعينات القرن العشرين نشر عدد من الدراسات الهامة بمجلة "نوفي مير" ينتقد فيها بشدة نزعة ما بعد الحداثة الروسية. ولعله علي أرضية هذه الكراهية الشديدة لنزعة ما بعد الحداثة، تولد حبه الشديد لصاحب نوبل ألكسندر سولجينيتسين، وصار فيما بعد عضو لجنة تحكيم جائزة سولجينيتسين. كتب باسينسكي العديد من الدراسات النقدية عن أعمال الكثيرين من الكتاب الروس مثل فيكتور أستافيف وفالنتين راسبوتين وسفيتلانا فاسيلينكو وأليكسي فارلاموف وأوليج بافلوف، وأصدر عدة كتب منها "موضوعات وأشخاص" عام 1993، و"الأدب الروسي في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين والهجرة الأولي" عام 1998. ولعل مقاله عن مكسيم غوركي وعلاقته بنيتشه في صحيفة (نيزافيسيمايا غازيتا) عام 1998 بمناسبة مرور 130 عاما علي ميلاد نذير العاصفة - غوركي، هو أحد أهم مقالات ذاك العام، والذي عرَّض باسينسكي لانتقادات شديدة من قبل زملائه المتخصصين في أعمال غوركي وأهمهم البروفيسور فاديم بارانوف. الكاتب بليفين حاصل علي جائزة "بوكر"، وعلي الدكتوراه في العلوم التقنية. والناقد باسينسكي حاصل علي جائزة "ضد بوكر" وعلي الدكتوراه في الآداب. بليفين (السريالي، ما بعد الحداثي، ما بعد السوفياتي، الرافض لكل شئ) يعلن أنه خرج من الحظيرة العامة للأدب. وباسينسكي (المحافظ، المتردد بين ما قبل الثورة الاشتراكية وبين ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، الرافض للتجربة السوفياتية مع بعض التحفظات، والرافض لما بعد التجربة السوفياتية مع بعض التحفظات أيضا) يعلن عن موت ما بعد الحداثة الروسية قبل أن تولد. الأمر الآخر هو أن كراهيتهما معا للتجربة السوفياتية توحدهما. ويوحدهما أيضا احتقارهما لمعظم الإنتاج الأدبي والفني خلال السبعين سنة التي عاشتها التجربة السوفياتية. وعلي الرغم من أن باسينسكي كتب رسالة الدكتوراه عن حياة وأعمال غوركي، فهو يعتبره كاتبا سيئا، بينما يسخر بليفين من جميع جوانب منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية والفنية والجمالية والأدبية لتلك التجربة. إن الخلافات هنا واضحة ومحددة ومؤدلجة لا تحتمل التأويل والإسقاطات الشخصية أو المتعلقة بالحقد والغيرة والغضب؟ حتي عندما سخر بليفين من الناقد باسينسكي في إحدي رواياته، رد عليه الثاني بمقال كان أحد ثلاثة مقالات فازت بجائزة "ضد بوكر". المعركة في ظاهرها كانت حاضرة بكل تفاصيلها أثناء ما دار في الدورة الثالثة للبوكر العربية. ولكن في الحقيقة ليس هذا هو موضوعنا الأساسي. كل ما في الأمر أن إحدي المؤسسات الصحافية الروسية قامت في عام 1995 بإعلان جائزة "ضد ردا علي جائزة "بوكر" التي استحدثتها صحيفة "نيزافيسيمايا جازيتا" في روسيا عام 1992، والتي كانت آنذاك مؤسسة نشر وإعلام كاملة مملوكة للملياردير اليهودي الروسي بوريس بيريزوفيسكي الذي فر من القضاء الروسي فيما بعد إلي بريطانيا وحصل علي جنسيتها. إن الجائزة الأم في بريطانيا نجحت، بعد عام واحد فقط من انهيار الاتحاد السوفيتي، في استحداث النسخة الروسية من البوكر التي تهتم بالرواية فقط مثل الجائزة البريطانية الأم. أما جائزة "ضد بوكر" الروسية الخالصة فتهتم بالسرد والنص المسرحي والشعر والمذكرات والنقد. الأولي كانت قيمتها آنذاك 12 ألف دولار، والثانية 12 ألف زائد دولار واحد. وتم وضع عنوان لكل مجال من المجالات يخلد فروع الثقافة الروسية وكبار مبدعيها. ما يعني أن الحراك الثقافي _ الإبداعي في روسيا رغم كوارث تلك الفترة السياسية والاقتصادية كان عتيا بما يكفي لاستحداث جائزة قادرة علي ترسيخ وبلورة التيارات الجديدة في مختلف مجالات الإبداع والتأكيد علي استقلاله بكل تجلياته. لا شك أن الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت متدنية بما فيه الكفاية في روسيا التسعينات. ولكن يبقي السؤال قائما: هل انتبه المثقفون الروس آنذاك إلي ما نتحدث فيه الآن عن "عولمة الجوائز" و"تصميم الغرب علي سيادة أنماطه الإبداعية شكلا وموضوعا" و"الانتقائية الغربية لآداب وإبداعات الشرق المتخلف" و"سيادة المركزية الأورو - الأمريكية علي الأطراف"؟ لقد كانت روسيا ممزقة تماما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وما شهدته روسيا ما بعد السوفياتية طوال 10 سنوات كاملة لم تشهده دولة في التاريخ، حيث بدأ الطحن بمحلات ماكدونالدز وإعلانات كوكا كولا وكتابة أسعار السلع الغذائية بالدولار، ثم هدم التماثيل والمباني التاريخية، وسيادة النمط الاستهلاكي، وظهور المافيا وتحالفها مع السلطة في ظل انهيار أخلاقي نفسي لم يكن يتصوره أحد علي الإطلاق. إلي أن كاد الغرب ينجح في ضرب المنظومة الأخلاقية _ الاجتماعية والنسق الثقافي الروحي للمواطن الروسي البسيط. حتي أن مقارنتها بأي دولة عربية أو بالدول العربية مجتمعة من رابع المستحيلات. إذن، فكيف استطاع المثقفون الروس أن يتنبهوا لما نناقشه الآن علي المستوي النظري فقط. والمقصود بالمستوي النظري هنا، السطحية وعدم المبدئية. فالروس عندما ينتقدون ما بعد الحداثة، أو المركزية الأورو _ أمريكية، يمتلكون الأدوات والقدرات اللازمة علي الاستشراف ومواصلة العمل علي تبرير مقولاتهم، ولا يرددون كالببغاوات الرؤي والمفاهيم النقدية الغربية وينتقدون سيادتها في آن واحد. من هنا تحديدا تم استحداث جائزة "ضد بوكر" الروسية بعد 3 سنوات فقط من فرض "بوكر" البريطانية في ثوب روسي أشبه بمأكولات ماكدونالدز. لم تكن الخلافات شخصية، ولم يكن لها علاقة بأحقية هذا بالجائزة واستبعاد ذاك. الخلافات كانت أدبية _ نقدية ومبدئية _ تاريخية. السؤال الثاني الذي يتردد بقوة: لماذا جند البعض نفسه للتشكيك في جائزة بوكر العربية، ومن ثم المطالبة بإيقافها أو إلغائها أو الانفضاض من حولها؟ قد يكون الغضب أو الإحساس بالمهانة وانحطاط الواقع الثقافي والعلاقات بين المبدعين وراء ذلك، ولكن ألم يفكر أحد في استحداث ما يشبه "ضد بوكر" من دون المطالبة بالنفي والإلغاء؟ إن بوكر العربية تمتلك كل الحق في الوجود إلي جانب "ضد بوكر العربية". في بداية تسعينيات القرن العشرين تمكن الشاعر هشام قشطة ومجموعة من الشعراء المصريين من إصدار مجلة "الكتابة الأخري". هذه الخطوة كانت ناجمة عن اختلاف الأعمار والتوجهات والعقائد الإبداعية بالدرجة الأولي. فالشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، الذي كان قد عاد من باريس في منتصف الثمانينات، تولي فيما بعد رئاسة تحرير مجلة "إبداع" وأعلن حينها أن مجلته ستكون "مخصصة للنخبة وليس للحرافيش". وعلم الثقافة يفرق جيدا بين عقائد وتوجهات النخبة من جهة والحرافيش من جهة أخري، خاصة في مجالات الإبداع. وبالتالي صارت مجلة "الكتابة الأخري" أكثر انتشارا وتجذرا علي مدي ما يقرب من 20 عاما. فيما توارت مجلة "إبداع" تماما وعلي كل المستويات. لقد نجحت الكتابة الأخري في التعامل مع الإبداع الطليعي المصري بكل حقبه وأجياله من جهة، والإمعان في بلورة الإبداع المعاصر والحديث والتعامل مع التيارات والرؤي الجديدة من جهة أخري. وهذه معركة أجيال وتوجهات وعقائد إبداعية وثقافية. المعركة هنا ليست إطلاقا بين أشخاص قد نختلف أو نتفق علي أدوارهم وأحجامهم وأساليبهم في التعامل مع النخبة والحرافيش ومناهجهم في الاقتراب والابتعاد عن السلطة السياسية - الثقافية. والأمر ليس أيضا مجرد علاقة عابرة بفعالية إبداعية (جائزة مثلا) ستتغير لجنة تحكيمها في الدورة المقبلة وسينسي الجميع ما حدث في الدورة السابقة وكفانا الله شر القتال. إن الحل الوسط في مثل هذه الظروف السيئة فعلا، هو "دعه يعمل، دعه يمر"، ولا نفي أو إلغاء لأن العقل البشري قادر دوما علي استحداث ما يحتاج إليه الكائن البشري. أي أن الطلب الاجتماعي _ الثقافي المختلف والمتنوع علي "منتجات الجوائز" قادر علي التعامل مع جوائز مختلفة، بل وقادر أيضا علي توجيه النشاط الثقافي لاستحداث جوائز مختلفة. قد لا نختلف كثيرا علي كثرة الجوائز وتعددها في السنوات الأخيرة في المنطقة العربية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو منهج هذه الجوائز؟ وما هي عقائدها الأدبية والفنية؟ وما هي أهدافها؟ لقد هزتنا "بوكر العربية" عندما استحدثوها لأسباب كثيرة تذكرنا بمعركة النخبة والحرافيش، والتخلص من الشروط المدهشة للجوائز العربية الأخري. وبالتالي، فأي ملاحظات علي "البوكر العربية" يجب ألا توجه إلي الجائزة العربية أو البريطانية، بل إلي العقلية العربية ومنظومة العلاقات والمفاهيم التي نجحت في جر الجائزة علي نفس أرضية الجوائز العربية. بوكر"