أقيمت خلال الشهور الماضية انتخابات عامة ورئاسية في بلدان ومجتمعات تنتمي إلي منطقتنا التي يطلقون عليها الشرق الأوسط بدلا من العرب أو المسلمين حشد لها الإعلام ماكينته الضخمة بأدواته واختراعاته وسلطها علي شعوب تلك الدول يدعوهم للمشاركة وعدم التخلف عن الانتخابات ومزاولة حقوقهم المشروعة في اختيار ممثليهم وحكامهم الذين سيتكفلون بإدارة شئون حياتهم وينهضون بهم وينتشلونهم من ثلاثية الجهل والفقر والمرض الضاربة أطنابها في جذورهم وعقولهم وأجسادهم. إن البلدان التي أجريت فيها هذه الانتخابات الديمقراطية تمثل واقع شعوب المنطقة كلها بلا استثناءات تذكر وهي تشترك مع كل شعوب شرقنا الأوسط السعيد في البنية الأساسية التاريخية, التي حكمت ولاتزال تحكم حركة تطور تلك المجتمعات فالمشترك الديني هو الإسلام وكلها خضعت ألفا ونصف الألف من الزمان إلي حكم يستمد شرعيته نظريا من القرآن الكريم وعمليا من القوة العسكرية التي يملكها ويسيطر عليها ويمنحها الأولوية من الرعاية والنفوذ. وبقيت هذه الشرعية واحدة حتي مع انتقال مراكز السلطة من دمشق إلي بغداد مرورا بالقاهرة واسطنبول إثر صراعات دموية هائلة دفعت شعوب المنطقة ثمنها الباهظ, من أجل أن تسيطر عشيرة أو عائلة أو طائفة علي الحكم. ومنذ رحيل الاستعمار السابق هناك عودة له كما يبدو دخلت القوي الحاكمة المستندة إلي القوة في صراعات التنافس علي القوة والسلطة بمعزل كامل عن الشعوب التي ورثت بدورها علي مدي السنين ثقافة القبول والخضوع لكل ما يمليه عليها الحاكم وعدم الاعتراض أو الرفض أو حتي المطالبة بالبديل. وأصبحت شرعية الحاكم مستمدة مما يملك من قوة عسكرية يفرض بها سلطته علي المجتمع. فالمجتمع الإيراني الذي يموج بالحراك العنيف منذ أعلنت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة وخاصة حركة الجيل الجديد من شبابه يعاني داخليا من الأزمات الاقتصادية التي تجعل مستوي البطالة يصل الي12% من عدد السكان وهي نسبة خطيرة لابد أن يرتبط بها العديد من الظواهر الاجتماعية السلبية, خاصة الكلفة الباهظة التي تتحملها بالصرف علي التسلح والحصار الاقتصادي عليها من قبل كثير من الدول وما الممارسات التي تمت من قبل السلطة بعد إعلان النتائج إلا تأكيد علي أن القوة العسكرية والزمن هما الأولوية والأصل وليس الديمقراطية وحرية المجتمع. وقد يشير البعض في هذا الصدد إلي أن هناك تجارب ديمقراطية مهمة نجحت وحققت استقرارا وتنمية بالرغم من ارتفاع نسبة الفقر والأمية والتنوع الإثني والطائفي فيها كالهند علي سبيل المثال لكن علينا أن ندقق في مقومات التجربة الهندية وأسباب نجاحها وتطورها وهي مثال جيد علينا أن ندرسه ونقتدي به خاصة للتماثل في كثير من المكونات الاجتماعية. فالتجربة الهندية ليست تجربة هينة بل هي نتاج معاناة كبيرة حولت المفهوم الديمقراطي إلي عقيدة وثقافة عامة لدي الفقير والغني علي حد سواء وآمن بها الجميع وعمل من أجل استقرارها ونموها. وأهم عوامل نجاح التجربة الهندية هو بزوغها من الشعب نفسه وقياداته الحزبية الشعبية ولم تبدأ من السلطة العسكرية كما هو حاصل في منطقتنا العربية فقد ساعد علي تحقيق التحدي الكبير في الهند أن مؤسسيها بعد التخلص من الاستعمار البريطاني بداية من المهاتما غاندي كانوا من الديمقراطيين الراسخين فليس من السهل أن نجد في أي دولة في العالم غير الهند مثل هذه الوفرة غير العادية من الطوائف العرقية واللغات والأديان والممارسات الثقافية المتنوعية, فضلا عن التنوع الجغرافي والمناخي ومستويات التنمية الاقتصادية. وكان جواهر لال نهرو أول رئيس لوزراء الهند وتلميذ غاندي, قد أمضي حياته السياسية بالكامل متفرغا لغرس العادات والقيم والتقاليد الديمقراطية في شعبه وهي ازدراء الحكام المستبدين واحترام النظام البرلماني والإيمان بالنظام الدستوري وترسيخه في عقول الناس. وقدم بذلك نموذجا اعتبره كل من جاء بعده طريقا له وهو ما رسخ القيم الديمقراطية إلي الحد الذي جعل ابنته أنديرا غاندي تشعر بالخجل والالتزام بضرورة اللجوء إلي الشعب الهندي طلبا للغفران بعد أن علقت الحريات في العام1975 بإعلانها حالة الطواريء التي دامت21 شهرا واحتراما منها للقيم التي تشربتها من والدها قررت عقد انتخابات حرة هي الانتخابات التي كانت خسارتها فيها فادحة فقد كان هذا هو الرد المثالي للمجتمع الهندي الذي تشرب المباديء الديمقراطية وتغلغلت في وعيه بكل طوائفه. لهذا نري أن تجربة الهند بدلا من أن نتقارن بها علينا أن نضعها دليلا لنا إن أردنا أن نتحول إلي النظم الديمقراطية ونواكب العصر الذي نعيشه. إن المباديء الأساسية هي التي يحكم بجوهر معناها المباديء الحقيقية للديمقراطية, وليس محرد إجراءات شكلية إدارية تبدأ صباحا بطوابير تسقط أوراقا في الصناديق وتنتهي مساء بإعلان النتائج فالديمقراطية إذن هي حياة يومية يعيشها الإنسان طوال حياته من يوم مولده حتي وفاته. واليوم نري أن النخب العربية تتحمل مسئولية أساسية في تأكيد مقولات عبر الدعوة لتفعيلها في الخطاب الإعلامي العربي وفي التعليم بكل مراحله وتأكيد المفاهيم الليبرالية التي تحترم الجميع ولاتفرق بين رأي وآخر أيا كانت درجة الاختلاف في الرأي. ومع الأسف فإن جولة علي المحطات الفضائية العربية والتعرف علي طبيعة برامجها والطريقة التي يتحاور بها المتحاورون تؤكد أن ثقافة الديمقراطية بعيدة عن الذهنية العربية فالحوار عادة ما يأخذ شكل الهجوم المتبادل وعادة لايتمكن طرف النقاش أو أطرافه من الإنصات وهي ظواهر تدل علي ثقافة ما أسسته الشمولية والبوليسية في وعي الأفراد والجماعات بل ونتيجة لمؤسسات ثقافية وإعلامية تقوم بدور المؤسسات القمعية وليست منابر لحرية التعبير والتفكير ونشر التسامح وقبول الآخر في المجتمع. * نقلا عن جريدة الاهرام المصرية