على الرغم من مرور قرابة 34 عاماً على حرب أكتوبر المجيدة «الغفران« على حد وصف الجانب اليهودي، فإن آثار هذه الحرب لاتزال كائنة في نفوس الجانبين المنتصر والمهزوم، وتتضح هذه الآثار جلية في حلول هذه الذكرى، حيث تفتح الملفات عند الجانب المصري لاعلاء قيمة هذه النصر وتأكيد قدرة القوات المسلحة المصرية وكيف أن الشعب المصري قادر دائماً على تحقيق النصر مهما كانت التحديات، وتكون هذه الإعلانات مادة خصبة للصحف والمجلات، فأسرار هذه الموقعة لا تنتهي أبداً وشغف القارىء لا يقل مع مرور الأيام فهي رمز عند كل عربي للشموخ والإصرار والإقدام، هذه المعاني يقابلها سعي إسرائيلي لا يكل لتعرف الأسباب التي مكنت العرب من كسر شوكتهم وتدمير قوتهم والإطاحة بأحلامهم التي طالما أسسوا لها ورسخوا أركانها وشددوا على قدسيتها، فالأسرار عندهم تتكشف ومعينها لا ينضب أبداً، ولن يمحو التاريخ هذه الذكرى من النفوس المنتصرة والمهزومة على حد سواء. هي حرب الغفران كما أطلق عليها اليهود «حرب أكتوبر المجيدة« وفي ترجمة ل «يوم الكيبور« وهو عيد الغفران، العيد الذي يحتفل فيه اليهود وهو «سبت الأسبات« حيث يعتبرونه أكثر الأعياد قداسة وأهمية فيقوم اليهود بالصوم خمسا وعشرين ساعة متواصلة عن الطعام والشراب ويمتنعون عن ارتداء الأحذية الجلدية ويقومون بالصلاة التي تعتبر أطول الصلوات خاصة في هذا اليوم حتى غروب اليوم التالي ويذهبون إلى «قدس الأقداس« الذي يحفظ فيه تابوت العهد ولا يفتح إلا مرة واحدة في يوم الغفران وفي نهاية الاحتفال باليوم يقومون بصلاة «النعيلاه« وهي صلاة الخاتمة ويدعون أن السماء تغلق أبوابها أمامهم وبعد ذلك ينفخون في البوق، ولكن ما لا كان في حسبانهم اقتران هذا اليوم الخاص بيوم انقلاب آمال وأحلام الصهيونية وتفشي الذعر والخوف واهتزاز الثقة بالذات، وتذبذب المعايير المتغطرسة بالتفوق على سائر البشر والأفضلية كما ذكر في التلمود «ان كل اليهود مقدسون، كل اليهود أمراء، لم تخلق الدنيا لا لجماعة اليهود (إسرائيل) لا يدعي أحد ابناء الاله إلا جماعة إسرائيل ولا يحب الاله أحدا إلا جماعة إسرائيل«، فبدا لهم كل تلك الأحلام الوردية التي يقومون منها إلى الواقع الذي كان أصعب من أن يحتمله المجتمع الإسرائيلي كافة، فقد كان عنصر المفاجأة عنصراً فعالاً وناجحاً حتى بشهادة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي نفسه إذ أقر أن استغلال المصريين والسوريين المفاجأة التي حققوها من أجل النجاح والانتقال إلى مرحلة المحافظة على المكاسب ليس فقط لاستعادة ما فقدوه ولكن لمعاقبة عدوهم وكسب أوراق المساومة وقد برع الرئيس السادات في استغلال عنصر المفاجأة وأكد ذلك الجنرال حاييم بارليف (احتياط) أن الإنجازات التي حققها المصريون والسوريون في الأربع والعشرين ساعة الأولى للحرب لم تأت نتيجة الخلل في توازن القوى التي شكلت المفاجأة ولا بفضل نظرية عكسية بل كانت نتيجة لعدم إعطاء إنذار كاف وعنصر المفاجأة من أهم العناصر وحسن استخدامه قد وفق المصريون والسوريون في هدم الأسطورة الصهيونية واعترف بذلك جهاز الاستخبارات الإسرائيلية في وصفهم السادات. حنكة السادات حيث تلقى الإسرائيليون درساً لن ينسوه أبداً وتعلموا الكثير من فطنة وحنكة السادات ويصفونه بالمعلم من حيث انه علمهم كيف يكون التكهن «التنبؤ بالشيء« ولكن في الوقت نفسه يؤكدون أن شخصية الرئيس السادات شخصية ماهرة وحاذقة ولا يمكن لأحد أن يتنبأ بأفعاله أو يعلم نياته فيقولون «لقد علمنا بأن السادات لا ينوي الحرب في 1973 وعلمنا بأن السادات لا ينوي السلام في 1977 ويقرون بأن تنبؤهم في كلتا الحالتين خاطئ وحدث العكس« ويعجب الإسرائيليون ذاتهم قائلين: كيف لنا أن نفهم شخصية أو نعرف نيات رجل لم يفهمه أو يعلمه حتى أقرب الناس إليه؟ محللين بذلك موقف وزير الخارجية المصري حيث انه بعد سماع خطبة السادات «إنني على استعداد أن أذهب إلى آخر الدنيا حتى إلى الكنيست الإسرائيلي في القدس« قدم استقالته بسبب عدم معرفته أو تكهنه بنيات السادات ولا يعلم بخطواته الرئيسية حيث بدا لنا كيف كان السادات معلم اليهود ومؤسس نظرية التنبؤ والتكهن وأهمية المعلومات بالتأكيد أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي تعهد بتقديم إنذار مسبق عن نيات العدو قبل البدء بمدة كافية بتقديم إنذار مسبق يمكن الجيش من تعبئة جنوده الاحتياط كل ذلك بدافع تعلمهم من السادات وإدراكهم ذكاءه وتعلمهم منه الكثير بعد هزة حرب أكتوبر المجيدة ويقلب إحساس الغطرسة والغرور الذي يملأ قلوبهم ويسيطر على عقولهم فكرة التفوق والأفضلية على سائر البشر. الغرور والاستهانة بالعدو من أهم أسباب هزيمة اليهود وسيظل أهم الأسباب لكراهية الشعوب لهم وما يدل على تلك الغطرسة قول القادة الإسرائيليين بعد 67 «انه لا نقاش مع النصر« إذ صور لهم غرورهم أنهم لا يقهرون ولن يقف أمامهم ولا أمام طوفانهم أحد، فقد قال العميد «زعير« ان الغطرسة والغرور قمة الحماقة وأكد ذلك جهاز الاستخبارات الإسرائيلي أن قادة العسكرية الإسرائيلية هم الزارعون لمبدأ الغطرسة والاستهانة واحتقار الطرف الآخر من النزاع وهم أنفسهم من رفعوا القبعة احتراماً وتقديراً للمشير الجمسي والشاذلي وعبدالناصر والسادات وقمة الغرور والغطرسة ما حدث حين علمت رئيسة الوزراء آنذاك «جولدا مائير« بمعلومات قيام المصريين بتوسعات في الأيام الأخيرة من أول سبتمبر وزيادة عدد المدافع من 800 إلى 1100 مدفع وردت «جولدا مائير« على ذلك: إنه على الرغم من المؤشرات الكثيرة التي تدل على نيات حربية حقيقية فإنه يبقى احتمال نشوب الحرب ضعيفاً، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وتحقق جسارة الجنود المصريين ودقة التكتيك النصر الخالد وأيضاً الثقة التي كانت مبالغاً فيها بقدرة الجيش الإسرائيلي واطمئنانه حيث قال العميد «زعير«: إنه بالرغم من المناورات المصرية العادية فلا توجد هناك أي نية لتحويل ذلك لحرب. اطمئنان مقصود وأيضاً معرفتهم بمعلومة إخطار الجنود في يوم الرابع من أكتوبر وهي أوامر من القيادة المصرية بإخطارهم في نهار رمضان وكل ذلك الغرور والاطمئنان المقصود والمخطط له فجاءت أجراس الهاتف تدق في عظام القيادة الإسرائيلية وكبار الضباط حين أخبروا أن الجيشين المصري والسوري يعتزمان شن هجوم مساء السبت على هضبة الجولان والسويس في آن واحد والغرور هو أيضاً من الأسباب الرئيسية التي أوقعت الجيش الإسرائيلي في مصيدة الفشل وفي شباك دهاء الرئيس السادات وقد كان، وقد ملأ الغرور قلوبهم والتفاؤل سيطر عليهم إذ قال العميد شارون قائد المنطقة الجنوبية في ذلك الوقت «إن وجود قوة مؤلفة من 300 دبابة في سيناء تمكننا من صد أي هجوم« وإنها لحماقة من اليهود الثقة المبالغ فيها وسبب أساسي في انكسار أحلامهم. في حين قال أيضاً رئيس شعبة التدريبات غونين إن القوات النظامية فقط تستطيع صد أي هجوم وان القوات القائمة في الجبهة المصرية كافية للقيام بصد أي هجوم. وانها لغطرسة وحماقة وغرور يؤكد من جانب آخر ذكاء وفطنة وحنكة الرئيس السادات وتنبؤه وحسن فراسته ومعرفته بثقافة اليهود دليل واضح على التنبؤ بخطواتهم ودراسة استعدادهم وفشل خطة عش الحمام. وتقول هذه الخطة بانتشار القوات النظامية الإسرائيلية في سيناء في حالة «استنزاف متطور« أي محاولات مصرية لدخول سيناء أو غزو وقد قامت الخطة على 300 دبابة لو بالانتشار في ثلاثة خطوط ما بين القناة وخط المحور وتعتبر هذه الخطة سببا آخر في فشل اليهود إذ حدث ما لم يكن في حسبانهم ولا كان في مخيلتهم وأيضاً عدم تحرك الضباط الإسرائيليين بسبب عدم تأكيد كلمة السر «عش الحمام« حتى بعد اندلاع الحرب يدل على حماقة وغباء وقلة خبرة الإسرائيليين وأن خطة «عش الحمام« على غرار الخطة الأصلية (سيلع) بمعنى الصخرة وكان هدفها القيام بهجوم للقضاء على القوة المصرية التي عبرت القناة ومن ثم اجتياز القناة إلى الضفة الغربية ولكنها خطة ينقصها التجهيز والأخذ بالإنذار والاعتماد على المعلومات وعدم الاستهانة بالمعلومات وغيرها من أخطاء جهاز الاستخبارات التي استغلها الرئيس السادات والتي تدل على عبقريته من حيث التجهيز بالخطط وعدم الاستهانة بأي معلومة عن العدو المغتصب الذي أثبت للعالم تفوقه العسكري والسياسي والإداري وأيضاً عبقريته التي اعترفت بها القيادة الإسرائيلية. ويقر جهاز الاستخبارات الإسرائيلي بفشله وعدم قدرته على التنبؤ بأفكار السادات إذ يلومون أنفسهم بعد فوات الأوان لعدم معرفتهم بالثقافة العربية والدين الإسلامي الشيء الذي اعتقده قادة إسرائيل أنه لو حدث لغير تلك الأمور رأساً على عقب ولكن كل ذلك ادعاءات لطمس الحقائق. وأقر بفطنة العرب العقيد الاحتياطي تسفي عوفر وقال «إن الفطنة والجرأة والحنكة التي أظهرها القادة السوريون والمصريون في حرب يوم الغفران جاءت متناقضة تماماً لما كان خبراؤنا الاستخباريون على استعداد لأن ينسبوه لهم قبل الحرب«. خطة ممتدة لقد وصف الإسرائيليون موقف مصر وسوريا بأنه قد بدا المصريون متماسكين في نظريتهم ومسيرتهم خلال الفترة التي أعقبت حرب الأيام الستة (حرب 67) حتى حرب يوم الغفران. نستخلص من تلك المقولة خطة الرئيس عبدالناصر عندما بدأ حرب الاستنزاف، أعلن الرئيس جمال عبدالناصر في خطاب ألقاه أمام حزب «الاتحاد الاشتراكي المصري« في 27 مايو 1969 أن الخطة تشمل أربع مراحل: تدمير خط بارليف بقصف مدفعي، ويجتاز الجنود الكوماندوز المصريون قناة السويس ويهاجمون المعاقل الإسرائيلية ، ويعزز المصريون هجومهم على خط بارليف ويتعمقون إلى داخل سيناء ويهاجمون منشآت ووحدات عسكرية إسرائيلية هناك، تجتاز القوات المصرية قناة السويس في عملية واسعة وتحتل مناطق على الضفة الشرقية للقناة بهدف كسر الجمود السياسي، ولقد أعلنت خطة حرب أكتوبر على الملأ ونفذت حسب مراحلها الأصلية. ويلقي الإسرائيليون اللوم والحسرة والندم على عدم الاهتمام بخطاب الرئيس عبدالناصر أو أخذه في الاعتبار ودراسته، ففي سنة 70 وافق عبدالناصر على وقف إطلاق النار وبعده خالف عبدالناصر الاتفاقية ودفع ببطاريات الصواريخ المضادة للطائرات إلى منطقة القناة مما أدى إلى الانتقال إلى المرحلة الرابعة وهي حرب يوم الغفران، الأمر الذي لم تفطن إليه القيادة الإسرائيلية آنذاك جيداً إذ بفضل تلك البطاريات التي قدمتها الزعامة المصرية إلى قناة السويس واكتفت إسرائيل بتعهدات أمريكية بدلا من تدمير الصواريخ. كانت تلك الخطوة هي أكبر خطوة وأهم خطوة مكنت الرئيس السادات من الاستعداد للحرب إذ انه بفضل تلك الصواريخ استطاع المصريون اجتياز القناة والتمركز شرقها. وقال «ليز« ان موت جمال عبدالناصر 28/9/1970 قد أخر الاستعداد للمرحلة الرابعة حتى الأشهر الأولى من 73 حيث تسلم السادات دفة الحكم ولكن بدا في أول وهلة بالنسبة إلى إسرائيل أنه قد تخلى عن هذا الحل العسكري ولكنه في الواقع قد أعاد خيار الحل العسكري وتحويله إلى حل فعال وحيد وتبدو حرب أكتوبر محاولة لتنفيذ المرحلة الرابعة في خطة عبدالناصر لأنه قد اعتقد الإسرائيليون أن الرئيس السادات قد أدار وجهه عن خطة عبدالناصر لذلك قام الإسرائيليون بإخلاء موقع وقسم من مواقع خط بارليف وقلصوا وجودهم هناك وأغلقوا عشرة معاقل بالرمال من بين 26 معقلاً وهنا استكملت جزئياً المرحلة الثالثة من خطة عبدالناصر واستعداداتهم لتنفيذ المرحلة الرابعة التي عكست نجاحاً هائلاً وبذلك نجح السادات في تطويق ووضع إسرائيل بين شقي الرحى، حتى تحول السادات في نفوس الإسرائيليين شبحاً يطارد نفوس الإسرائيليين. وفي صيف 77 عندما أعلن السادات قدومه إلى القدس أثارت الزعامة الإسرائيلية العديد من المخاوف حيث قال: «مردخاي غور« رئيس هيئة الأركان آنذاك محذرا الحكومة والشعب في إسرائيل من خدعة السادات ونياته العدوانية كيف جفا النوم عين إسرائيل في ذلك اليوم ولكن رفض رئيس الوزراء آنذاك مناحم بيجن هذه الشكوك هو ووزير خارجيته موشي ديان وقدموا دعوة رسمية للسادات لزيارة القدس لأنهما قد أجريا مفاوضات مباشرة وغير مباشرة معه في صيف 77 وستظل صورة السادات هي الصورة المرعبة لقلوب اليهود ولم يخل شعورهم من الذعر من السادات، إذ قام الشعراء الإسرائيليون بوصف السادات وتشبيهه برمسيس الثاني لأنه التقاء لأجيال سببت إحباطا وذعرا في نفوس اليهود حيث وصفه الشاعر يهود بن عزرا في قصة «ليلة تذكارية واحدة« وعبر كيف كانت تخاف البطلة من خطاب السادات وتقوم على الكوابيس والأرق والخوف من الأهرامات ورمسيس الثاني والسادات. وهناك أيضاً في الشعر الإسرائيلي من سخر من قادة إسرائيل حيث قصيدة «كفاك يا موسيه كفاك« و«موشي ديان من فوق الجدار«، حيث سيظل السادات الحكيم الذي يتكلم عنه الجميع ليس العرب فقط ولكن كل العالم واليهود خاصة ووصفهم له بأنه حاخام يهودي لأنه لا يقهر اليهودي إلا اليهودي على أساس وجهة نظرهم، كل ذلك محاولات كاذبة لهدم أحلامهم وتغيير مصيرهم على يد السادات الرجل الذي اهتزت له القلوب وعجزت عن وصفه الأقلام