لعل أخطر ما تتعرض له مياه الشرب في مصر, الشكوك المتزايدة من جانب الرأي العام المصري في جودة هذه المياه, ومدي صلاحيتها للاستخدام برغم أن شبكات المياه النقية تغطي الآن مائة في المائة من العواصم والمدن والبنادر, وتكاد تغطي98 في المائة من قري مصر الرئيسية, يشرب معظمها مياها نظيفة مصدرها محطات التنقية التي تستمد مياهها من نهر النيل وفروعه, وباستثناء عدد محدود من القري يعتمد حتي الآن في استهلاكه للمياه علي آبار جوفية تؤكد تقارير الجودة صلاحيتها للاستخدام الآدمي برغم أن بعضها يعاني زيادة نسب الحديد والمنجنيز الذي لا ينتج آثارا سلبية علي صحة المواطنين, وإن كان يؤثر بعض الشيء علي مدي استساغة المستهلكين لطعم هذه المياه. وتشير تقارير الرأي العام إلي أن الانطباع السائد عن مياه الشرب في مصر هو انطباع سلبي يتعلق الآن بمستوي جودة المياه وليس مدي وفرتها بعد الجهود الضخمة التي بذلتها الدولة علي امتداد العامين الأخيرين, وأدت إلي زيادة حجم المياه التي تصل إلي المستهلكين في جميع أرجاء مصر باستثناء495 قرية يجري الآن ربطها بمصادر نقية للمياه في مشروع جديد يستهدف اشباع حاجات كل القري المصرية قبل نهاية عام2010 وإنهاء مشكلة القري العطشي. وبرغم وجود برنامج وطني لمراقبة جودة المياه يغطي25 من محافظات مصر, ويلتزم بإصدار تقارير جودة يومية عن مياه الشرب من مصادر إنتاجها داخل المحطات وعبر شبكات التوزيع التي يتجاوز طولها70 ألف كيلو متر, وعند منافذ الاستهلاك من خلال نظام يومي يقنن اختبار وتحليل عينات عشوائية من هذه المناطق لقياس مدي مطابقتها لمواصفات مياه الشرب النظيفة التي يضعها وزير الصحة, تضمن خلو المياه من كل ملوثات البكتيريا الضارة والمعادن الثقيلة إلا أن هذا البرنامج يحتاج إلي استكمالات رئيسية للارتقاء بمستوي الجودة إلي معاييرها العالمية, بما يضمن المسح البيئي لمآخذ محطات مياه الشرب السطحية التي تعتمد علي مياه النيل, والتأكد من نظافتها البيئية, والاختبار الدوري للاشتراطات الصحية لحرم الآبار الجوفية لضمان عدم وجود مؤشرات لأي تلوث بكتيري, ومراجعة معدلات السحب من الآبار التي بدأت تشكو من زيادة تركيز الأمونيا والعكارة, ورفع كفاءة عمليات الترويق والترسيب والترشيح داخل محطات التنقية, ومراجعة جرعات الكلور النهائية داخل المحطات وفي شبكات التغذية لتحسين مذاق المياه ولونها ومراعاة دورية غسيل وتعقيم الشبكات والخزانات طبقا لمعايير القياس المقننة وجميعها برغم أنه يدخل في نطاق الواجبات اليومية للأجهزة المعنية بهذه الإجراءات إلا أنها تتطلب مراقبة أكثر حزما تضمن حسن التنفيذ. غير أن أوجه القصور الراهنة التي يتعلق معظمها بضمان القيام بمسئوليات واضحة ومحددة تفرضها إجراءات التفتيش والمتابعة لا تبرر أزمة الثقة الشديدة في مياه الشرب التي اتسعت أخيرا عقب حادث قرية البرادعة الذي آثار الرعب في معظم قري الدلتا خوفا من انتشار وباء التيفود في أكثر من بقعة سكانية, برغم أن حادث البرادعة وقع لأسباب تخص قرية بعينها, كانت تعتمد في استهلاكها للمياه إلي حد زمني قريب علي مياه آمنة مصدرها آبار جوفية مشكلتها الرئيسية أنها تنتج مياها تزيد فيها نسبة المنجنيز والحديد بصورة تعطي طعما للمياه غير مستساغ بعض الشيء, وتؤثر علي لون كوب الشاي ومذاقه, وتجعله كالح الإحمراء يصعب أن يشبع أمزجة الأهلين, وبسبب الزيادة المستمرة في حجم استهلاك القرية تم ربطها بإحدي محطات التنقية القائمة علي نيل القناطر الخيرية عبر شبكة جديدة تعرضت لاعتداءات عديدة ولسلسة من أخطاء التركيب والتشغيل أدت إلي تلوث المياه في الشبكة الجديدة عند تجريبها. وما من شك في أن جزءا من الخوف السائد من مياه الشرب يجد تفسيره السيكلوجي في عدم قدرة المستهلك علي أن يكتشف أسباب العوار التي تلوث المياه بالعين المجردة, وهذا ما يجعل القضية علي حد تعبير وزير الاسكان أحمد المغربي أخطر كثيرا من مشكلة الخبز الذي يمكن أن تكتشف عيوبه ورداءته في التو واللحظة قبل استخدامه, ومع الأسف تصبح الشكوك حقائق مؤكدة في نظر الكثيرين إذا تغير لون المياه بعض الشيء نتيجة زيادة نسب الكلور في المياه إن كان يخالطها زيادة في نسب الحديد والمنجنيز, لكن ما من شك أيضا في أن هناك من تعمدوا ترويع أناس من فوق منابر الجوامع في بقاع عديدة من أنحاء الجمهورية من خطر تلوث مياه الشرب, برغم أن غالبية المصريين في ريف مصر وبنادره إن لم يكن جميعهم يعتمدون علي مياه الشبكات لم يتعرضوا لأية مخاطر, لأن آثار حادث قرية البرادعة ظل محاصرا في نطاق القرية لم يتجاوزها إلي أي مكان آخر. وبرغم أن النظرة الفاحصة لما حدث في قرية البرادعة في ضوء التقارير النهائية لتحقيقات النيابة العامة والتقارير الفنية التي قدمها عدد من الخبراء والمختصين قاموا بعدد من الزيارات إلي قرية البرادعة واستمعوا إلي القصة من أفواه الأهلين وإلي المسئولين عن الوحدة المحلية انتهت إلي عدد من الحقائق تؤكد خصوصية الحادث. أولاها, أن الجهة القائمة علي تشغيل شبكة المياه الجديدة في القرية لم تتبع الاجراءات الوقائية التي كان لابد من اتخاذها لضمان سلامة وصول مياه آمنة إلي المواطنين والتي تخلص في غسيل الشبكة وتطهيرها والتحقق من وجود النسب الصحيحة من الكلور في مواسير الشبكة, كما أنها لم تنبه المواطنين إلي عدم استخدام مياه الشبكة الجديدة لأنها لا تزال تحت التجريب. ثانيتها, أن التنفيذ العشوائي الذي قام به الأهالي لشبكة الصرف الصحي في القرية اعتمادا علي الجهود الذاتية ودون إشراف هندسي أو الالتزام بالحد الأدني للمواصفات الصحيحة في أرض مشبعة بمياه الصرف الزراعي والصحي, أدي إلي ظهور عوار خطير في الشبكة التي لم تتمكن من استيعاب الحجم المتزايد من استهلاك المياه. ثالثتها, قيام الأهالي بعمل توصيلات لمنازلهم علي شبكة المياه الجديدة دون إشراف هندسي, الأمر الذي أدي إلي كسور في الشبكة وتلوثها بمياه جوفية مشبعة بمياه الصرف الزراعي والصحي تسربت داخل شبكة المياه وأدت إلي تلوثها. غير أن خصوصية حادث البرادعة لا تمنع إمكانية تكراره في مناطق أخري من أرض الدلتا المشبعة بمياه الصرف الزراعي والصحي إلي أعماق تبدأ من خمسة أمتار وتمتد إلي25 مترا في غياب الاشراف الهندسي الصحيح علي شبكات الصرف الصحي التي يقوم الأهالي بتنفيذها في إطار جهودها الذاتية ودون عون فني من شركات المياه والصرف الصحي, أو من الوحدات المحلية, ودون التزام بأية مواصفات قياسية, الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلي تكرار ما حدث في قرية البرادعة, إن تعرضت شبكة المياه الموجودة علي أعماق قريبة إلي كسر يمكن أن يؤدي إلي تلوثها.., وإذا كان مجمل القري المصرية التي تتمتع بصرف صحي لا يزيد حتي الآن علي11 في المائة, يصبح من الضروري قصر تنفيذ شبكات الصرف الصحي علي جهود الشركات المتخصصة التي تلتزم المواصفات الصحيحة خاصة مع زيادة الكثافة السكانية للقري ووصول شبكات المياه النقية إلي معظمها وزيادة حجم الصرف الصحي نتيجة زيادة حجم استهلاك المياه, وقد يكون ضروريا تصنيف مناطق الدلتا طبقا لخطورتها قياسا علي مدي قرب المياه الجوفية الملوثة بالصرف الزراعي والصحي التي تتراوح أعماقها ما بين خمسة و20 مترا, كي يتنبه الأهلون ووحدات الحكم المحلي وشركات المياه والصرف الصحي إلي أهمية تحصين شبكات مياه الشرب في هذه المناطق بما يقلل من احتمال تعرضها لحادث عارض يؤدي إلي تلوثها خاصة أن تنفيذ مشروع الصرف الصحي في القري المصرية سوف يحتاج إلي عقدين من الزمان علي الأقل, فضلا عن تكاليفه الضخمة. غير أن الكارثة الصحية الحقيقية تكمن في عشرات الآلاف من الطلمبات الحبشية التي تملأ القري والمزارع والبيوت, تأخذ مياهها من أعماق قريبة ملوثة مشبعة بمياه الصرف الزراعي والصحي خارج نطاق عمق المياه الجوفية الآمنة الذي لا يقل عن60 مترا, وبرغم القرارات والتوصيات العديدة التي تطالب بإزالة هذه الطلمبات لخطورتها علي الصحة العامة, يصر أهالي الريف المصري علي الإبقاء عليها, لأنهم يرون فيها مصدرا مجانيا مضمونا للمياه لا يدفعون عنها أي فاتورة, بل إنه في العديد من قري الدلتا يتم توصيل الطلمبات الحبشية بشبكة المواسير داخل المنازل من خلال مضخات صغيرة برغم خطورتها وبرغم أنها تشكل المصدر الأكثر خطرا لانتشار مياه ملوثة, الأمر الذي يتطلب التفكير في حل بديل يغني عن مئات الطلمبات التي يتم دقها علي أعماق قريبة بطلمبة واحدة في كل شارع أو حي, تصل إلي عمق المياه الآمنة لتخدم سكان الشارع أو الحارة بدلا من أن تخدم أسرة واحدة خاصة أن مشروع تعميم الصرف الصحي في القري سوف يستغرق زمنا. وما ينبغي أن تدركه الحكومة أن فقدان الثقة في مياه الشرب برغم صلاحيتها يعكس أزمة ثقة ينبغي أن تجد حلها الصحيح في ضبط جودة المياه وضمان نظافتها من خلال المراقبة الدقيقة لشكبات المياه والصرف الصحي, خاصة في مناطقة الدلتا الأكثر خطورة لقرب المياه الجوفية الملوثة والصرف الصحي, الزراعي والصحي, والقضاء علي العشوائية في تركيب هذه الشبكات تحت إشراف إدارات محلية لا تملك, إن حسنت نياتها, أية قدرات تضمن سلامة التركيب, بحيث يقتصر تركيب هذه الشبكات علي شركات متخصصة, وأظن أيضا أن القوانين التي تنظم هذه العملية تحتاج إلي تعديلات سريعة لأنه لا معني لعدم وجود جزاء رادع لمن يعتدون علي شبكات المياه والصرف الصحي برغم ما يحمله ذلك من مخاطر صحية ضخمة, أو يلقي مواد ملوثة داخل هذه الشبكات, أو يهمل الاشتراطات الصحيحة لدق الطلمبات الحبشية علي عمق أكثر أمنا, لأن الخطر كامن وموجود في مساحة الأرض المشبعة بمياه الصرف الزراعي والصحي علي مسافات قريبة, ينبغي مواجهته بنوع من الإنذار المبكر وفرق الطواريء التي تستجيب علي نحو سريع لشكاوي الأهلين, وتقدم لهم حلا بديلا يضمن للناس مصدرا مؤقتا لمياه نظيفة عند وقوع خطر التلوث بدلا من تركهم دون مياه لأيام واسابيع في البرادعة انتظارا لمعرفة من المسئول عن الحادث: الحكم المحلي أم مقاول الباطن أم الأهلون أم هذا المتهم الحاضر أبدا في كل جريمة صغيرة أو كبيرة الذي يتمثل في الإهمال الجسيم, وإهدار حقوق الأهلين وتجريم الصغار كي يفلت الكبار والتعلق بالأقدار الصعبة والظروف السيئة فرارا من تحديد المسئولية؟! * الاهرام