لم يكن الفوز الكبير لديمتري ميدفيديف في الانتخابات الرئاسية الروسية مفاجئا لأحد. والبعض يعتبر انه انتخب فعلا يوم 10ديسمبر الماضي حين اختاره الرئيس فلاديمير بوتين كمرشحه إلى الكرملين. توريث بواسطة الاقتراع ام تكريس للاختيار بواسطة آلية الانتخابات، ايا كانت التساؤلات المشروعة جدا حول ديمقراطية العملية الانتخابية في روسيا وحول الطبيعة الديمقراطية للسياسة الروسية على الصعيد العام، تبقى هنالك حقيقة قائمة. وهي ان الرئيس بوتين يحظى بشعبية كبيرة وأنه كان قادرا على توريث أو تجيير هذه الشعبية لمن يختار، ليس بالضرورة بالحجم ذاته أو بالسهولة ذاتها، وذلك لجملة من الأسباب الموضوعية التي تسجل له كانجازات ومنها: أولا انه حقق الاستقرار السياسي ويقول أكثر من مراقب في موسكو ان جورباتشوف فكك الإمبراطورية السوفييتية. وان يلتسن فكك الدولة الروسية، أما بوتين ففكك شبكة الحيتان والمافيات المالية وأعاد إحياء الدولة حسب النموذج السلطوي الرأسمالي وبالتالي أنقذ روسيا من الفوضى والضياع التي كانت تعيشهما وثانيا انه فرض السلام في الشيشان وفي شمال القوقاز وثالثا انه استطاع ان يدير ويحافظ على عملية نمو اقتصادي متسارع . وعلى وضع أدى إلى تحسن الأحوال المعيشية بشكل كبير ورفع مستوى الدخل الفعلي للمواطن وتحسن الأداء الاقتصادي بشكل عام ولو ان مرد هذا الانجاز الأخير أساسا استفادة بوتين من الصعود الكبير لأسعار الطاقة والمداخيل الضخمة التي وفرتها لروسيا. ورابعا، أعاد بوتين لروسيا مكانتها وموقعها على الصعيد الدولي وكطرف عالمي فاعل بعد سنوات من الغياب، غياب الدور، والانهيارات المتتالية في المكانة وفي الموقع. ديمتري ميدفيديف هو ابن البروسترويكا وليس ابن الأجهزة الأمنية والإدارية الحاكمة مثل حال سلفه وهو رجل تجريبي ليبرالي في الاقتصاد وذات منحى غربي إلى درجة معينة في الاجتماع والثقافة يعبر عن فترة الانفتاح الانتقالية، ولكن تبقى منظومة قيمه الغربية مقيدة بالإرث الوطني الروسي وتحت سقف المنظومة السياسية البوتينية. وهو يمثل أيضا شخصية تكنوقراطية دون ان يعني ذلك مجددا الخروج عن الثوابت البوتينية. يقال الكثير حاليا وتطرح الأسئلة والتساؤلات حول طبيعة النظام الجديد الذي يسميه البعض السلطة ذات الرأسين . حيث سيكون بوتين على رأس الحكومة وحيث يعتبر الكثيرون ان القرار الفعلي سيبقى عنده، ولو ان الصلاحيات في القضايا السياسية والأمنية والعسكرية تبقى دائما في الكرملين. لكن يقول الكثيرون ان طبيعة العلاقات بين الشخصيتين ستسمح دائما لرئيس الوزراء بوتين بأن يكون صاحب القرار الأساسي الحاسم. ولكن من ينظر إلى التاريخ الروسي يرى حالات عديدة جيء بها بشخصية إلى الموقع الأول أو الموقع الأساسي باعتبار انها ضعيفة أو محدودة التأثير لتثبت عكس ذلك وتنقلب على هذا الوضع لاحقا. هذا ما حدث مع ليونيد بريجنيف عام 1964وهذا ما حدث قبله مع نيكيتا خروتشيف وهذا أيضا ما قيل بشأن بوتين عندما تم اختياره من طرف أصدقاء يلتسن باعتبار انه موال ويمكن التأثير فيه. ويعتقد البعض ان ميدفيديف قد يصطدم لاحقا مع بوتين في مجالين أساسيين أولهما على الصعيد الشخصي قد يحاول بناء قوته الذاتية وخاصة ان السلطة كانت دائما في الكرملين من حيث الامكانات والوسائل للتحكم في الدولة وانه قد يدخل في علاقات توتر متصاعد بشكل تدرجي مع سلفه وشريكه في السلطة إلى ان يحسم الأمر لمصلحته. وثاني هذه المجالات التي قد تعرض علاقة السلطة برأسين إلى الاهتزاز ان ميدفيديف يواجه تحديا أساسيا في الداخل قوامه الاستفادة من المداخيل الضخمة للطاقة من اجل دفع عملية البناء الوطني التنموي في مجالات أساسية عديدة ومن اجل العمل على بناء طبقة متوسطة مستقرة تعززالاستقرار الوطني وقد يذهب في هذا المجال في اتجاه مزيد من الانفتاح الاقتصادي على الخارج وبعض اللبرلة السياسية الضرورية لتنفيس الاحتقان الحاصل ولصياغة فضاء سياسي جديد في روسيا الاتحادية، مما قد يجعله في موقف صدامي مع بوتين. لكن المجال الأساسي الذي من شبه المؤكد انه لن تحصل فيه تغييرات أساسية مع انتقال السلطة هو مجال السياسة الخارجية وذلك لجملة من الأسباب اولا ان هنالك توافقاً في المؤسسة الاستراتيجية الروسية وفي الوزارات المعنية حول ان الوضع العالمي يقدم فرصا ممتازة لبناء النفوذ الروسي من هذه التوافقات في الأدبيات السياسية الاستراتيجية الروسية «سقوط خرافة الأحادية الأمريكية» . في العالم عبر الشرق الأوسط، انطواء أوروبا على ذاتها وغرقها في قضايا التوسيع والبناء الأوروبي مما يعرقل تحولها إلى قطب سياسي فاعل على الصعيد الدولي، عودة الاهتمام بالمسرح الاستراتيجي الآسيوي سياسة واقتصادا بالنسبة لروسيا التي تعتبر نفسها قوة آسيوية أساسية ووجود مجالات وفرص عديدة من مسائل ونزاعات متعددة جاذبة لدور روسي وبالتالي لنفوذ لموسكو ثم صعود قوى دولية مثل الصين والهند والبرازيل واليابان، كلها تؤشر حسب هذه القراءة الاستراتيجية. ان العالم يتجه نحو التعددية القطبية وان ذلك يوفر فرصة لا بل يشكل عنصر جذب لدور روسي ناشط، ثاني هذه العناصر التي تشجع على الاستمرارية ان اهم انجازات بوتين كانت في المجال الخارجي وهي تندرج في سياق وفاقات وشرعيات وطنية روسية وانه من الطبيعي ان يستمر الرئيس الجديد في هذه السياقات ويستثمرها لمصلحته، وثالث عناصر الاستمرارية ان روسيا قد وقفت على رجليها من جديد وأنها صارت تمتلك القدرات والخبرات والثقة للعب دور القوة الدولية الكبرى الفاعلة وهو الدور الذي شكل دائما سمة أساسية في الشخصية الروسية عبر التاريخ. خلاصة القول اننا سنشهد مزيدا من تكريس الاستمرارية في السياسة الخارجية ولو اختلفت الأولويات في الزمن حسب أهمية القضايا المطروحة دوليا بالنسبة للحركة الروسية في العالم وأننا سنشهد مزيدا من النشاط على صعيد البناء الاقتصادي الداخلي مع التداعيات السياسية لذلك على هيكل القوى في المجتمع الروسي، ثم أخيرا انه من المرجح ان نشهد ولو بعد فترة بداية الصراع بين «أهل البيت» لحسم وضع السلطة ذات الرأسين الذي قام منذ أيام في القوة الدولية الكبرى العائدة.