عبرت الدولة الروسية الحديثة عدة محاور تاريخية متباينة تماماً.. فمن عهد قياصرة وأسرة ريمانوف إلى ثورة بلشفية فى أكتوبر عام 1917 أطاحت بأحلام القياصرة القدامى وأفرزت ستاراً حديدياً توالدت عبره مجموعة من القياصرة الجدد الذين حكموا طبقة البروليتاريا باعتماد حزبى دائم. ولكن لغرف الكرملين سحراً لا يقوى على من يقطن به أن يغادره بسهولة.. ولهذا يفكر الرئيس ديمترى ميدفيديف فى فترة رئاسية جديدة يقضيها فى أرجاء هذا القصر الشهير.. لذا تأتى تصريحات أحد كبار مساعدى الرئيس الروسى (أركادى دفور كوفيتش) لتؤكد رغبة الرئيس ديمترى ميدفيديف فى الاستمرار فى الحكم لفترة رئاسية ثانية والتى ستبدأ مع انتخابات عام 2012 القادمة ويعلق على هذه التصريحات أحد زعماء اليمين الروسى قائلاً «إنها تدل على وجود انقسامات فى السلطة وأن هناك فريقين أحدهما يؤيد ميدفيديف وفريق آخر يؤيد فلاديمير بوتين الرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالى والمرشح المقترح فى الانتخابات الرئاسية القادمة. وقد كان بوتين أول من اقترح اسم ميدفيديف على الساحة السياسية منذ حوالى 20 عاماً هى عمر صداقتهما التى بدأت منذ عام 1990 واستمرت حتى العام الحالى.. وهنا يطرح سؤال فرضته مجريات الأحداث خاصة بعد تصريحات ميدفيديف والتى وصفها البعض بأنها بداية لمرحلة الفطام السياسى تجاه الرئيس السابق بوتين والتى بدأت بمقال نشره ميدفيديف على الموقع الالكترونى لمجلة (أوبوز يشن ويب ديلى جازيتا) المعارضة تحت عنوان (إلى الأمام.. ياروسيا) هاجم فيها إنجازات الاقتصاد الروسى واصفاً إياه «بأنه مصاب بتخلف مزمن وبدائى لأنه يعتمد على تصدير المواد الخام وأن البضائع الروسية غير قادرة على المنافسة العالمية وأن الفساد متفش فى كل مكان، والمجتمع الروسى يخلو من الأفكار الخلاقة ودعا ميدفيديف لإنهاء عصر التعالى والغطرسة والعداء فى العلاقات وضرورة تغيير السياسة الروسية القائمة على الانعزال عن الآخرين» ويعلق المختصون على هذا الخطاب بأنه رفض لسياسة بوتين التى اعتمدت خلال وجودها فى السلطة على تصدير الغاز والنفط لأنهما مصدر للدخل القومى. مباراة كلامية/U/ كما أن إعلان ميدفيديف رفضه لفترة حكم ستالين فى خطاب نشره على موقعه الشخصى قال فيه «إن تحقيق مصالح الدوله لايبرر تدمير حياة الملايين من أبناء الشعب» وتعلق الناطقة باسم الرئاسة (ناتاليا تيما كافا) بأن الرئيس قد كشف عن موقفه السلبى من الممارسات التنكيلية لنظام حكم ستالين وأنه يدعو لتكريم ضحايا هذا النظام الديكتاتورى. وترد الحكومة الروسية التى يترأسها فلاديمير بوتين بأن محو أو تحريف تاريخ البلاد لا يجوز.. ويصف المحللون محاولات ميدفيديف الخروج من عباءة بوتين والتى بدأها بالتصريحات السابقة بأنها لا تتعدى مجرد مباراة كلامية حتى يحين موعد الانتخابات الرئاسية القادمة. وحتى الآن لم يفصح بوتين عن أجندته القادمه تاركاً الساحة خالية أمام التكهنات لا سيما بعد تجميد المباحثات النهائية لتوقيع إتفاقية (ستارت 2) والمعنية بخفض وتفكيك ثلث عدد الأسلحة النووية لدى كل من الولاياتالمتحدةوروسيا الاتحادية وتعد هذه هى الاتفاقية الثانية التى يتم الاتفاق عليها. وكانت الاتفاقية الأولى قد وقعت عام 1991 بين الرئيس السوفيتى السابق جورباتشوف والرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش والتى سينتهى العمل بها عام 2012. وبعد انتخاب الرئيس باراك أوباما جدد الدعوة إلى الإستمرار فى سياسة الحد من الأسلحة النووية ومنع انتشارها رافعاً شعار «عالم بلا أسلحة نووية» حتى جاءت الانتخابات الأخيرة للتجديد النصفى للكونجرس وأصبح عدد الجمهوريين 47 مقابل 53 لصالح الديمقراطيين وترتب على ذلك تعثر المفاوضات لأن التصديق على اتفاقية الحد من السلاح النووى تستلزم موافقة 67 صوتاً لذلك يحتاج الرئيس أوباما لموافقة 14 صوتاً لتمريرالاتفاقية وهذا يعد من الأمور الصعبة ومن المتوقع أن يؤدى هذا الموقف إلى تراجع فى الموقف الروسى تجاه إيران، بالإضافة إلى عدم الالتزام بالمعاهدات السابقة والعودة إلى سباق التسلح كما جاء فى الخطاب الأخير للرئيس ميدفيديف. التزامات وعهود/U/ وفى نفس الوقت يعتمد الرئيس الروسى استراتيجية الأمن القومى الروسى للفترة من عام 2011 حتى عام 2020. ويصفها عدد كبير من المحللين والمراقبين الدوليين بأن هذه الوثيقة تتضمن الاستمرار للسياسة العامة لإداراتى يلتسين وبوتين وأنها تضع خارطة لنفوذ روسيا القومى والعالمى وإعادة بناء مكانتها الجيوسياسية العالمية والتى فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وبسببها تم توجيه النقد للرئيس السابق بوتين الذى سعى منذ توليه للسلطة إلى بناء مؤسسة سلطوية وفق الأجندة القومية الروسية ولهذا اتهمه الغرب بأنه يهدف لبناء نظام حكم ديكتاتورى. ورغم هذا أعلن المتحدث الرسمى باسم الكرملين أن رئيس الدولة قد صدق رسمياً على استراتيجية الأمن القومى لروسيا حتى عام 2020 والتى تعتمد سياسة تنموية اجتماعية وسياسية واقتصادية لضمان أمنها القومى وتوقعها لحدوث نزاعات سياسية وعسكرية جديدة على مناطق النفوذ ومصادر الطاقة فى العالم، الأمر الذى يفرض تطبيق نظم دفاعية حديثة تعتمد على نشر معدات تكنولوجية متطورة فى المناطق الحدودية والدول المجاورة. ومن المؤكد أن الرئيس الحالى ميدفيديف ليس أمامه الخيار لاتباع سياسة مخالفة للنهج الذى رسمه بوتين بسبب تعثر احداثيات الخارطة السياسية وظهور مصالح تستلزم نبذ الخلافات الشخصية لصالح المصلحه العليا للبلاد حتى لو تطلب الأمر العودة إلى عباءة بوتين رفيق وزميل الدراسة القديم. فقد تخرج الاثنان فى نفس الجامعة وحصل ميدفيديف على الدكتوراه عام 1990 فى الحقوق وعمل فى الفترة من 1991 وحتى 1999 فى مجال التدريس الجامعى ومستشاراً لرئيس مجلس إدارة مدينة سانت بطرسبرج ثم خبيراً فى لجنة الشئون الخارجية وفى عام 1999 أصبح نائباً لرئيس الوزراء لروسيا الاتحادية ثم نائباً لرئيس الديوان حتى عام 2003 وفى عام 2007 اختاره الرئيس فلاديمير بوتين ليكون خلفاً له على كرسى الرئاسة فى انتخابات عام 2008 وينجح ميدفيديف فى خوض الانتخابات الرئاسية ويفوز بأغلبية كبيرة بسبب الدعم الذى قدمه بوتين صديق الأمس وغريم اليوم.