الأهرام 22/05/2008 لا أظن أن الأمة العربية سبق لها أن واجهت مثل هذا المأزق الراهن الذي تفاقمت حدته بعد غزو أمريكا للعراق واستباحة إسرائيل لكامل الأراضي الفلسطينية واشتعال أزمة اقليم دارفور واهتزاز تركيبة الوفاق السياسية والطائفية والمذهبية في لبنان. وليست حدة المأزق في تعدد واتساع بؤر المشاكل والأزمات علي امتداد الأرض العربية وما صحبها من انقسامات وتجاذبات أعطت تأثيراتها السلبية علي العمل العربي المشترك, وإنما الخطورة في ارتفاع حدة الأصوات التي تتحدث عن عدم جدوي العمل العربي المشترك وعدم الحاجة لاستمرار النظام العربي تحت مظلة الجامعة العربية, وبالتالي عودة الحياة من جديد إلي الأصوات المنادية بالنزعات الشعوبية والقطرية الذاتية والتي تتناغم مع أصوات موازية تريد استبدال المظلة العربية وإحلال ما يسمي بالنظام الإقليمي الذي يتسع للعرب وغير العرب علي امتداد خريطة الشرق الأوسط. والحقيقة أن هذه الردة غير المسبوقة في التاريخ العربي الحديث ليست وليدة اليوم وإنما لها أسبابها وجذورها التي تمتد لسنوات طويلة مضت! أريد أن أقول بوضوح إن هناك منعطفين أساسيين عند أية مناقشة صريحة وضرورية للمأزق الراهن, أولهما أن المشروع القومي العربي تعرض لنكسة خطيرة بعد هزيمة يونيو1967, وبرغم أن معطيات ونتائج حرب أكتوبر1973 والانتصار العربي الكبير فيها وفرت فرصة ملائمة لإعادة ترميم المشروع القومي العربي, إلا أن ما جري من خلافات حول سبل استثمار هذا الانتصار سياسيا عرقل عمليات الترميم وأفرز اتجاهات شعوبية وأنانية ضيقة. ثم إنه عندما بادرت مصر بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام1979 فإن الدول العربية رضاء أو إكراها تعاملت مع الاتفاقية وكأنها رجس من عمل الشيطان وبدلا من أن يناقشوا مصر أو يراجعوها ويفتحوا باب الحوار معها, إذا بأصوات وصيحات العقاب والمقاطعة تعلو وتتزايد ضد مصر في قمة بغداد عام1979, وتتفق لأول مرة إرادة من كانوا يتذمرون من تسميتهم ب بالرجعيين مع إرادة من يزعمون أنهم التقدميون علي شئ واحد هو عزل مصر وإخراجها من الجامعة العربية. وهكذا دخل المشروع القومي العربي غرفة الإنعاش بعد قمة بغداد عام1979 لأنه بعيدا عن أي دعاوي شيفونية لا مشروع ولا حلم ولا عروبة في غيبة مصر ودورها الريادي. ولكن مع مجئ الرئيس مبارك إلي موقع المسئولية الأولي في مصر عام1981 بدأت الآمال تتجدد في إمكان الابقاء علي الحلم والمشروع, خصوصا أن الرئيس استهل حكمه بتأكيد الرغبة في عدم مواصلة الدخول في معارك كلامية مع أي دولة عربية حتي لو واصلت هجومها علي مصر, والعمل علي فتح صفحة جديدة مع جميع الأشقاء العرب في ظل ثقة واقتناع بأن عودة مصر إلي منظومة العمل العربي أمر حتمي, وأنه مثلما تزداد مصر قوة بمحيطها العربي فإن العرب يملكون كل القوة بوجود مصر بكل ثقلها وتأثيرها. وكما نتذكر جميعا فإن جهود مصر أثمرت عن عودة العلاقات العربية المصرية وعودة مصر إلي جامعة الدول العربية بعد غياب دام قرابة عشر سنوات, وكان خطاب الرئيس أمام القمة العربية الطارئة في الدارالبيضاء في مايو1989 بمثابة منهج عمل متكامل من أجل استعادة الحيوية والعافية للتضامن العربي... ولم يكن متبقيا علي اكتمال عقد التضامن العربي سوي إبرام المصالحة بين بغداد ودمشق التي كان الرئيس مبارك قد انتهي من تهيئة كل الأجواء اللازمة لتحقيقها, فإذا بجريمة الغزو العراقي للكويت في2 أغسطس1990 تقلب الأوضاع رأسا علي عقب! وهكذا جاءت الأساطيل الأجنبية إلي الأرض العربية بمطالب عربية.. ولم يكن لأحد أن ينازع من استعانوا بالنجدة الأجنبية في هذا الحق المشروع لهم دفاعا عن الوجود الذاتي الذي أصبح بعد أحداث2 أغسطس يسبق أي دعاوي وشعارات أخري باسم القومية مهما يكن بريقها! وفي ظل أوضاع عربية يغلب عليها العجز ويسودها الشك وتتراجع معها كل عوامل الثقة كان من الطبيعي أن تسعي إسرائيل إلي استثمار هذه الأوضاع لكي تعربد كما تشاء وتتشدد إلي أقصي مدي, خصوصا بعد أن جاءتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام2001 كهدية علي طبق من فضة نجح اللوبي اليهودي في أمريكا في أن يخصص أغلب ما في الطبق لصالح إسرائيل حتي الآن, خصوصا بعد دخول أمريكا مباشرة علي خط المنطقة وقيامها بغزو العراق دون غطاء من الشرعية الدولية في مارس2003. *** ومع غزو العراق وكنتيجة له وعلي ضوء المشروع الأمريكي الرامي لإعادة رسم خريطة المنطقة من جديد تحت دعاوي الرغبة في نشر الديمقراطية بدأت أحجار التضامن العربي تتهاوي حجرا بعد حجر, خصوصا أن بعض الأنظمة الضعيفة أصابها رعب المشاهد التي كان يجري بثها من أرض العراق ويتعاملون معها علي أنها رسائل إنذارية صارمة! ولست أريد أن أستطرد طويلا عند هذه النقطة الحساسة وما استتبعها من تداعيات سلبية مخيفة أبرزها ارتفاع أصوات المؤمنين بفكرة الاستقواء بالأجنبي في عدد من الأقطار العربية بعد أن شربوا حليب الشجاعة من التحريض علي إثارة القلاقل تحت راية الفوضي الهدامة. أريد أن أقول إن ما حدث قد حدث وأنه من حسن الحظ أن المشروع الأمريكي تعرض لفشل ذريع في العراق وبما يمكننا من طرح سؤال ضروري علي أنفسنا هو: كيف ينبغي لنا أن نقرأ كل ما وقع في السنوات الخمس الأخيرة من متغيرات دولية واقليمية أثرت بالسلب علي جوهر الحلم العربي وعززت من دعوات الانكفاء علي النفس والذات لترسيخ نزعات الشعوبية الضيقة والكفر بالقومية ومبادئها! ثم سؤال آخر لايقل أهمية هو: ما الذي يمكن عمله للإبقاء علي فكرة الحلم إذا لم يكن بالامكان في ظل الأوضاع الراهنة الشروع في السعي لتحقيقه؟ لقد بات محتما علي الأمة العربية أن تدرك أننا أمام تحد رهيب يتحتم علينا فيه أن نؤكد قدرتنا علي اعادة تصحيح الموازين التي اختلت بشدة في غير صالحنا بعد11 سبتمبر بأعصاب هادئة وإرادة صلبة, وذلك لن يتأتي إلا إذا استطعنا أن نثبت لأنفسنا وللآخرين أننا خرجنا من حالة الغيبوبة التي أغرقنا فيها سنوات طويلة وأدت إلي ضياع فرص ثمينة ليس مطلوبا أن نتباكي عليها الآن, وإنما المطلوب أن نستوعبها وأن نستخلص منها الدروس المستفادة لكي لاتتكرر الأخطاء وتتواصل الغيبوبة ويتوالي ضياع الفرص! لعلي أكون أكثر وضوحا وأقول إن أكبر خطأ يمكن أن نقع فيه علي المستويين التكتيكي أو الاستراتيجي هو الاستماع لأي دعوات يطلقها البعض بحسن نية عن حتمية الرد علي ما نواجهه من تحديات واستفزازات هنا وهناك بلغة الصدام والمواجهة فقط... وتلك خطيئة سبق لنا الوقوع فيها مرارا, وينبغي ألا نقع فيها مرة أخري مهما تعددت أشكال المناورة والمراوغة والاستفزاز من جانب أولئك الذين يريدون استمرار انشغال الأمة العربية بعيدا عن أهدافها الحقيقية. أريد أن أقول إن بامكاننا أن نرد دون أن نتصادم وأن نصارع دون أن نحارب لأننا جربنا طويلا سياسة الصدام ولغة التناطح ولم نجن من وراء ذلك إلا مزيدا من المكاسب لغيرنا ومزيدا من الخسائر لنا! وليس اجترارا للماضي ولا لوما لأحد أن أقول إن سجل الماضي القريب والماضي البعيد يؤكد صحة ما أدعو إليه وأحذر من مغبة الوقوع فيه.. ولعل ذلك هو الذي يفسر أن مجمل التحركات السياسية النشيطة لمصر من خلال اتصالات ومشاورات مكثفة تتركز حول قضيتين أساسيتين من قضايا السياسة الخارجية, وهما قضيتان مرتبطتان ببعضهما البعض.. قضية السلام.. وقضية تعزيز التضامن العربي. وإذا بدأنا بقضية السلام, فإننا نستطيع أن نقول إنه علي الرغم من كل محاولات إسرائيل لخلط الأوراق واجهاض عملية السلام فإنه يحسب لمصر أنها استطاعت بكل أدوات الصبر والحكمة وبما تملكه من مصداقية إقليمية وعالمية أن تبقي حتي الآن علي قدر من الأمل في عملية السلام.. صحيح أنها في حالة اعتلال قابل للشفاء بدلا مما كان يخطط له الاسرائيليون لكي تدفن وتواري في التراب إلي الأبد! إنني بكل أمانة الكلمة الصادقة أستطيع أن أقول إن مصر وليس أحد سواها هي التي ناشدت الفلسطينيين أن يواصلوا الرهان علي عملية السلام وألا يمنحوا الحجة التي يسعي إليها الإسرائيليون بالترغيب والترهيب لكي يدفعوهم لإعلان كفرهم بهذا الرهان! لقد كانت مصر وليس أحد سواها هي التي تحركت علي جميع المحاور وفي مختلف الاتجاهات ومع سائر القوي الدولية من أجل حشد أكبر تأييد سياسي ومعنوي يواصل الانتصار لعملية السلام ولجم العدوان الإسرائيلي وحماية الشعب الفلسطيني, وقد تحققت عدة نتائج ايجابية في هذا المجال أبرزها اعادة تنشيط الدور الأوروبي وتطور الطموح الأوروبي إلي حد المجاهرة بحق أوروبا في أن يكون لها دور ايجابي وفعال في عملية السلام بالتوازي مع الدور الأمريكي. وأيضا فلقد كانت مصر وليس أحد سواها هي التي تركت الباب مواربا أمام إسرائيل لكي تتوافر لديها الفرصة لمراجعة نفسها والعودة الجادة إلي الصواب والقبول بالسير في ركب السلام واستحقاقاته, طبقا للاتفاقيات المقررة سلفا والمبادرات المطروحة حاليا وبينها خطة خارطة الطريق وصيغة مؤتمر أنابوليس... ثم كانت مصر وليس أحد سواها هي التي ظلت تجاهر باستمرار تمسكها وثقتها بصحة الرهان علي الدور الدولي من خلال الرباعية الدولية في عملية السلام مهما يكن حجم التحفظات حول مايشوب هذا الدور من عجز وقصور تدرك القاهرة بحسن بصيرتها أسبابه ودوافعه! وعندما أطالع أوراق العمل العربي المشترك يبرز علي السطح ذلك الجهد المصري المكثف الذي يقوده الرئيس مبارك ببراعة من أجل توحيد الصف العربي, تحت مظلة التسامح والمصارحة والواقعية ومن أرضية ادراك صحيح إلي أننا كعرب لم نكن بحاجة يوما ما إلي تضامن عربي حقيقي يرتفع إلي مستوي وحجم التحديات التي تواجه أمتنا العربية بمثل مانحن بحاجة إليه اليوم. وفي اعتقادي أن نقطة البداية لاستعادة ما تبقي من المشروع العربي تتمثل في الحاجة الملحة إلي صياغة عربية متفق عليها بشأن المسموح به والمحظور الاقتراب منه في إطار التعامل مع تداعيات وإفرازات الغزو الأمريكي للعراق علي الأصعدة الفلسطينية واللبنانية تحديدا! ونحن أيضا بحاجة لتجديد الالتزام الصارم بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية لبعضنا البعض, لأن استمرار أجواء الشك وعدم الثقة هو الذي يعيق التوافق بين أبناء الوطن الواحد! وأظن أن النجاح في التوصل إلي اتفاق الدوحة أمس بين الفرقاء اللبنانيين لم يكن له أن يري النور في غيبة من التزام أطراف عربية مؤثرة في الملف اللبناني بالتوقف عن دس أنفها لتسهيل الوصول إلي تسوية متوازنة تحت مظلة الجامعة العربية.. بوضوح شديد أقول إنه لابد لنا من سرعة وضع تصور مشترك لأسس وأساليب التعاون الاقتصادي العربي في ضوء مابرز علي الصعيد الدولي من تكتلات اقتصادية رهيبة, وفي هذا الاطار تتجدد دعوات مصر إلي إحياء حلم السوق العربية المشتركة لتوفير القدرة اللازمة لمواكبة التكتلات الاقتصادية الكبري ومواجهة فاتورة أزمة الغذاء العالمي وارتفاع أسعاره بدرجة رهيبة وبما يسمح للاقتصاد العربي بالاندماج في الاقتصاد العالمي كشريك وليس كتابع! والأهم من ذلك أن نعمل بإرادة عربية مشتركة علي فتح أوسع قنوات للحوار مع العالم الخارجي من خلال سياسات واضحة تتسم بالثبات والاستقرار, خاصة مع الدول الصديقة التي تجمعنا بها مصالح مشتركة. ثم أقول في النهاية إننا بحاجة إلي إعادة تأكيد صحة الرهان حول المشروع العربي مهما بدت علي السطح من مؤشرات مقلقة وغير مشجعة! وفي اعتقادي أن الرهان صحيح ولكنه يحتاج لمزيد من الوقت ولمزيد من الصبر ولمزيد من الثقة في القدرة علي تجاوز المأزق الراهن وتداعياته! وعلي اليائسين والمتشائمين والمحبطين أن يعيدوا النظر في قراءاتهم لما جري وفي رؤيتهم لماهو محتمل! ولابد لي أن أعترف بأن دافعي لكتابة كل سطر في هذا المقال لم يكن بعيدا عن أجواء حزن مشروع وقلق مفهوم بسبب ازدياد حدة التمزق والانقسام في مناطق عديدة بالعالم العربي بينما إسرائيل تشعر في ذاتها وتريد أن تشعرنا بأن60 عاما مضت وهي تزداد قوة ونحن نزداد ضعفا... وهذا أمر قد يبدو صحيحا في ظاهره ولكنه ليس صحيحا في جوهره ولا في مجمله بكل مقاييس الجغرافيا ودروس التاريخ. ثم لابد لي أن أقول أيضا إن اعادة الحياة للمشروع القومي العربي وإعادة تجديد الحلم العربي هو الرد العملي الوحيد علي ما ورد في خطابي الرئيس الأمريكي بوش أمام الكنيست الإسرائيلي وأمام المنتدي الاقتصادي العالمي في شرم الشيخ, اللذين كشفا عن استخفاف بالحقوق والمشاعر العربية مع انحياز صارخ لإسرائيل بكل أدوات الظلم وبكل أسلحة التجبر. وهنا أؤكد مرة أخري أن هذه ليست دعوة للمواجهة والصدام مع أمريكا وإنما هي دعوة لمراجعة وتصحيح تجربة العمل العربي المشترك وإعادة وضع قاطرتها علي الطريق الصحيح وبما يمكن هذه القاطرة من دخول سباق العصر من أرضية القدرة والتكافؤ. وفي اعتقادي أن الأمة العربية قد بلغت من الرشد ما يجعلها قادرة علي عدم مجاراة أي استفزاز يستهدف دفعها إلي خنادق العداء والنفور مع أحد, لأن ذلك فضلا عن أنه يصب في مصلحة من يريدون قطع الجسور نهائيا بين العرب وأمريكا لخدمة أهدافهم ومقاصدهم التوسعية فإنه في الوقت نفسه لايخدم هدف الرغبة في تفرغ الأمة العربية لإعادة بناء مشروعها وفق معطيات العصر وضرورات الاندماج مع المنظومة الدولية تحت مظلة عالم جديد يصعب تجاهل معطياته ومتغيراته ومخاطر الانشقاق عنه! وقد علمتنا دروس التاريخ أن أي أمة تريد أن تجد لنفسها مكانا مؤثرا في الخريطة العالمية لابد أن تبني لنفسها كل عناصر القوة التي تدفع الآخرين إلي احترامها وإفساح المكان الملائم لها علي هذه الخريطة. ولسنا بأي حال ووفق أي مقياس تاريخي وجغرافي ومادي بأقل من الأمة الصينية أو الأمة الهندية اللتين نهضتا بعد انكفاء وتقدمتا بعد طول تراجع وتحظيان اليوم بالمكان اللائق والمكانة اللائقة في خريطة السياسة الدولية.