بعد نحو ستة واربعين عاما قضاها فى منصبه العسكرى ، اضطر الرئيس الباكستانى برويز مشرف الى تغيير جلده وخلع زيه العسكرى ليحتفظ بمنصبه كرئيسا للبلاد .. مشرف البالغ من العمر 64 عاما،أدى صباح اليوم الخميس اليمين الدستورية لولاية ثانية ،لكن كرئيس مدني للمرة الاولى بعد ثمانية اعوام على توليه السلطة اثر انقلاب ابيض . مشرف قام بتلسيم قيادة الجيش لخليفته الجنرال "اشفاق كياني" (55 عاما) و الذي اصبح القائد الجديد للقوات المسلحة الباكستانية وذلك فى احتفال كبير في مقر القوات المسلحة في روالبندي . والجنرال الباكستاني اشفاق كياني لاعب جولف خرج من عباءة الرئيس مشرف ليخلفه كقائد للجيش، لكن لن تتوافر امامه بعد الان فرصة ممارسة رياضته المفضلة لانه سيتوجب عليه الاضطلاع بدور اساسي على المسرح السياسي المضطرب في باكستان. وخلال الاحتفال اعرب مشرف عن حزنه في كلمته الوداعية ازاء تركه منصبه العسكري وخلعه بدلته العسكرية مختتما أربعة عقود من العمل في صفوف القوات الباكستانية المسلحة. قائلا ان " الجيش هو حياتى وحبى و اهتمامى الاول " ومتعهدا بالالتزام بالدستور وبذل كل جهوده للحفاظ على الامة وحمايتها . تخلي مشرف عن منصبه كقائد للجيش يأتى استجابة لضغوط كبيرة تعرض لها من جهات محلية واجنبية من اجل خدمة الديموقراطية في باكستان. وكان كثير من الباكستانيين قد شككوا في امكانية تخلي مشرف عن منصبه العسكري. و رغم خطوة مشرف الا انه لايزال يحتفظ بسلطات واسعة من بينها سلطات فصل رئيس اركان القوات الباكستانية , وفصل رئيس الوزراء , وحل البرلمان . جدير بالذكر أن الجيش الباكستاني قاد انقلابين عسكريين على قادته المدنيين في تاريخ هذا البلد القصير الذي تأسس في العام 1947 بعد انفصاله عن الهند. الا ان مشرف يبدو واثقا من كياني الذي سلمه مقاليد قيادة الجيش مكانه. واوضح الناطق باسم مشرف إنه لا وجود لأي مخاوف وأن الرئيس لا يزال هو القائد الاعلى للقوات المسلحة في البلاد، وان الرجلين على تنسيق دائم، مشيرا الى ان المرتين اللتين انقلب فيهما الجيش الباكستاني على القيادة المدنية كانتا بعد تفشي الفساد وبعد أن أصبحت هذه القيادة عاجزة عن قيادة البلاد. وكان مشرف قد قال في كلمته الوداعية خلال ترؤسه اجتماع هيئة اركان الجيش، إنه سيستمر في ترؤس اجتماعهم انما ستكون هذه المرة الاخيرة التي يرأسها مرتديا زيه العسكرية. من ناحية اخرى ، قالت مصادر باكستانية مقربة من دوائر صنع القرار ان مشرف قد يتخذ قرارا برفع حالة الطوارئ - المفروضة علي البلاد منذ يوم الثالث من شهر نوفمبر الحالى- فى غضون اليومين القادمين . والحقيقة ان المتابع لاحوال باكستان لم يكن ليفاجأ بالتطورات الأخيرة والتى أعلن خلالها مشرف حالة الطوارىء فى البلاد و ما تلا ذلك من اعتقالات و اضرابات زادت من الهوة بين القيادة و الشعب. والمحلل للتطورات على الساحة الدولية لم يكن ليتعجب من رد فعل المجتمع الدولى حيال قرار مشرف وهو الرد الذى يمكن وصفه " بالهادىء والمحسوب ". و تحليل هذا الرد الدولى يقودنا إلى فهم حقيقة الأحداث و ما وصلت اليه و ما يمكن ان تصل اليه فى المستقبل القريب. فباكستان يجب التعامل معها بحرص باعتبارها دولة ذات ثقل على الساحة الدولية وذلك لاسباب عديدة ، منها انها احد الدول النووية التى يجب التعامل معها بشكل خاص و ليس كأي دولة عادية . فضلا عن انها تمثل رأس الحربة فى الحرب الامريكية على الارهاب. و هذان الأمران يفسران سبب تعامل الولاياتالمتحدة بحذر شديد مع اعلان مشرف فرض حالة الطوارىء حيث احتاجت لنحو يومين قبل ان تبدأ فى الاعلان عن رفضها الرسمى و انتقادها العلنى لهذه الخطوة بينما كانت ستبادر خلال دقائق و ربما لحظات الى اصدار انتقادات دولية حادة فى حالة فرض الطوارىء فى دولة مثل سوريا او ايران مثلا. الا ان وضع الولاياتالمتحدة كزعيمة للعالم و حامية للديمقراطية و الحريات دفعها ايضا الى محاولة تكثيف الضغط على مشرف لرفع حالة الطوارىء و العودة الى مظلة الديمقراطية الدستورية حتى لايقال انها تكيل بمكياليين و تغض البصر عن قيام اقرب حلفاءها بسجن الديمقراطية خلف اسوار الطوارىء. ولكن هل كان مشرف مضطرا إلى الاعلان عن الطوارىء .. الحقيقة كافة التطورات و الاحداث التى شهدتها باكستان خلال الاشهر القليلة التى سبقت هذا الاعلان كانت تشير الى ان الامور لابد و ان تصل الى ما وصلت اليه. فازمة المسجد الاحمر عكست بشكل لايقبل الشك القوة التى وصل اليها التيار المتشدد فى باكستان الذى اصبح يتمتع بالقوة الكافية التى تسمح له بمواجهة مشرف و جيشه دون خوف او رهبة. اضافة الى ازمة القاضى افتخار تشودرى كبير قضاة المحكمة العليا الباكستانية والذى عزله مشرف ثم أعاده مرة اخرى تحت الضغط الشعبى الامر الذى عكس زوال قبضة مشرف على مقاليد القضاء. حيث اصبحت المحكمة العليا صاحبة القرار الاول و الاخير فى كل شىء بداية من محاسبة الحكومة على قرارتها التنفيذية و انتهاء بالسماح لمشرف بترشيح نفسه للرئاسة. و اضافة الى ماسبق شهدت الاقاليم الباكستانية على مدار الاشهر القليلة الماضية حالة من الانفلات الامنى غير المسبوقة للدرجة التى لم يعد يتعجب معها احد من قيام جماعة متشددة بالاستيلاء على ثلاثة او اربعة مدن مثلما فعلت جماعة نفاذ الشريعة المحمدية التى يتزعمها " فضل الله" فى وادى سوات و هو ما يعكس عدم الخوف من السلطة التى يمثلها الجيش الباكستانى الذى يقوده مشرف. لذا لم يكن غريبا ان يقوم مشرف باعلان حال الطوارىء وتحديدا فى الثالث من نوفمبر وقبل ثلاثة ايام فقط من اصدار المحكمة العليا الباكستانية قراراها فى الطعون المقدمة من المعارضة حول عدم قانونية اعادة ترشيح مشرف لنفسه رغم فوزه الكاسح فى الانتخابات خاصة بعدما وصلت اليه بعض المعلومات عن نية افتخار تشودرى الحكم فى غير صالحه. و يبقى السؤال الاهم هو كيف ستسير الاحداث بعد تخلى مشرف عن زيه العسكرى . و هل ستنهى الانتخابات القادمة المقرر اجراؤها فى الثامن من يناير المقبل الازمة السياسية الطاحنة التى دخلت باكستان نفقها المظلم .. هناك بعض الشواهد التى يمكن ان تساعد على استشراف اتجاه الاحداث. من بينها على سبيل المثال تحركات بينظير بوتو التى كانت حتى وقت قريب ،اقرب حلفاء مشرف خاصة بعد ما قيل عن اتفاقها معه على تقاسم السلطة بعد توليه الرئاسة كمدنى. فبوتو وبعد ان ساءت علاقتها بمشرف بدأت تسعى الى انقاذ صورتها كزعيمة معارضة تقف الى جانب الديمقراطية و تطالب بالحرية لابناء شعبها وبدأت تسعى إلى قيادة جبهة المعارضة لاسيما وانها تعتبر زعيمة المعارضة الوحيدة الموجودة بالداخل و المقبولة من الخارج لانها تمثل التيار الليبرالى فى مواجهة المتشددين الاسلاميين. فاذا نجحت بوتو فى توحيد جبهة المعارضة و ضم نواز شريف رئيس الوزراء السابق الى جانبها و عقد صفقة مع باقى تيارات المعارضة التى وصفتها بالمبعثرة. فى هذه الحالة يمكن ان تصبح قوة لايستهان بها كما ان واشنطن و جميع القوى الدولية تسعى اولا و اخيرا الى اتمام العملية الانتخابية بشكل ديمقراطى سليم و هو ما لا يستوى مع استمرار حالة الطوارىء التى تتنافى مع اى نزاهة او شفافية يمكن ان تتم من خلالها الانتخابات. وفي أول رد فعل من جانب الإدارة الأمريكية، التي طالما دعت الرئيس الباكستاني إلى التخلي عن منصبه العسكري، أشاد الرئيس جورج بوش بقرار مشرف بترك منصبه في قيادة الجيش، وحثه على رفع حالة الطوارئ التي فرضها في الثالث من الشهر الجاري. فيما رحبت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بتخلي الرئيس مشرف عن قيادة الجيش، لكنها طالبته برفع حالة الطوارئ والعودة إلى الديموقراطية وإحياء الدستور. كذلك، رحب المفوض الكندي ديفيد كولينز بتنحي مشرف، قائلا: "من وجهة نظر كندا، فإن قيام رئيس بخلع زيه العسكري وتولي مهام منصبه كمدني خطوة ايجابية نحو تهيئة المصالحة في البلاد وتطور الأمور بطريقه ايجابية. وفي برلين رحب وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير بخطوة مشرف ودعاه الى رفع حال الطوارئ، وقال ان الاستقالة خطوة في الطريق السليم وهي تطور ايجابي لاجراء الانتخابات البرلمانية. وفى باكستان، أكدت زعيمة المعارضة بينظير بوتو أن حزبها - حزب "الشعب" اللييرالى" المعارض - ليس فى عجلة لقبول الرئيس الباكستانى برويز مشرف كرئيس مدنى للبلاد، مرحبة باستقالته من قيادة الجيش،ووصفتها بانها خطوة أولى جيدة، لكن هناك المزيد مما يجب عمله، فعليه الآن التطرق إلى القضايا الأخرى موضع الخلاف، و نقل السلطة إلى الشعب ليستعيد حريته وكرامته، كما طالبت بتشكيل لجنة مستقلة للإشراف على الانتخابات . من جهته توقع الجنرال ميرزا بيج الذي رفض تولي قيادة البلاد بعد مقتل الرئيس ضياء الحق عام 1988 إن البلاد ستشهد مرحلة جديدة, مشيرا إلى أنه يتوقع تنامي مطالب المعارضة لإنهاء حالة الطوارئ. وعلى الرغم من تنازل الجنرال عن زيه العسكرى الا ان البعض يرى أن مشرف والذى صمد في وجه الاحتجاجات الشعبية والدولية التي بدأت مع اعلانه حالة الطوارئ في الثالث من نوفمبر، من المتوقع ان يواجه تحديات سياسية في الأسابيع القادمة على يد خصومه فى المعارضة والتى اتسعت دائرتها .. 29/11/2007