هل الأزمة القبرصية ذات الاربعة عقود فى طريقها للحل أخيرا ؟ اذا حكمنا من خلال الكلمات التى المح بها "جو بايدن" نائب الرئيس الامريكى خلال زيارته الأخيرة إلى الجزيرة المقسمة، فقد يبدو الحل فى متناول اليد بالفعل . فليس من قبيل المصادفة أن تاتى زيارة نائب الرئيس الأمريكي قبرص فى مايو الماضى فى مثل هذا التوقيت ، و هى تاريخيا الزيارة الثانية بعد زيارة ليندون جونسون عام 1962 و التى وقعت في شهر مايو ايضا . الزيارة الاخيرة تاتى مع وقوع روسيا فريسة لأهواء الإمبريالية، و القلق السائد في أوروبا ازاء مسألة 'أمن الطاقة' ( وضرورة التنويع بعيدا عن سيطرة جازبروم الروسية ، وهنا تبدو "قبرص " فى المشهد لتقف وتصبح مركز اوربا المستقبلى للطاقة الكبيرة، وفقا لجو بايدن على الأقل. ووفقا لوكالة معلومات الطاقة الأمريكية، فان قبرص "لديها مساحات فى اعماق المياه بحوض بلاد الشام داخل البحر المتوسط ، والتي تحتوي على موارد هائلة للطاقة تقدر بنحو 1.7 مليار برميل من النفط و 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي ". ولوضع هذه الأرقام في السياق، نجد ان اوربا تستهلك سنويا 18 تريليون قدم مكعب من الغاز، وهذا يعني أن حوض بلاد الشام يمكن أن يطفئ بمفرده عطش القارة العجوز من الغاز لما يقرب من سبع سنوات. شركة نوبل للطاقة Noble Energy اعلنت مؤخراعن اكتشاف مابين 6 الى 6.3 تريليون قدم مكعب من الغاز في المنطقة 12 التى تقع كلها ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، ولكن هناك تركيا التى تطمع ايضا فى الحصول على نصيبها . و تعد قبرص مثال ساطع على الصراعات المجمدة، أو التي طال أمدها ،و يتهرب طرفى الصراع منذ عقود من جهود التهدئة ، و قد بدات الازمة في محاولة لمنع البلاد من التوحد مع اليونان، فقامت تركيا بغزو الجزيرة في عام 1974، مما ادى لتقسيمها لشطرين وفقا للخطوط العرقية و اصبح هناك جدار مؤقت يمتد 180 كيلومتر وهو 'خط أتيلا Atilla line' الذى تحرسه الان القبعات الزرقاء للامم المتحدة و الذى يفصل بين الجمهورية التركية لشمال قبرص - التى يتمركز بها حاليا نحو 35.000 جندي تركى - عن قبرص اليونانيه. وحتى اليوم لا تعترف "أنقرة" بحكومة جنوبالقبرص في نيقوسيا، وتشدد على أن أي محاولات للحفر و التنقيب في المياة العميفة لحوض بلاد الشام يمكن أن يؤدى الى استخدام القوة العسكرية.. لماذا؟ لأنه لم يتم ترسيم الحدود البحرية بين البلدين حتى الآن. واعلنت تركيا أن المناطق البحرية (بما في ذلك بلوك 12) في جنوبقبرص، وصولا إلى المياه المصرية، جزء من الحدود التى لم يتم تقسيمها و تحديدها بعد . و يبقى الامر على ما هو عليه طالما استمرت "دبلوماسية البوارج " وهو ما جعل الشركات الأجنبية تنأى بنفسها عن الاستثمار و ضخ الموارد الكبيرة للمشروع الذى توقفت مساراته نتيجه التهديد بالعنف العسكري . وحتى الآن، تم إجراء أعمال استكشافية فقط في بلوك 12، بينما توقف الحفر الذى تعتبره تركيا خطا أحمر يستلزم ايجاد حل للازمة اولا . ولهذه الأسباب كانت زيارة بايدن. يرافقه مسؤولون من وزارة الطاقة، إلى قبرص فى غاية الأهمية ، و جعلته يعقد محادثات مع قادة المنطقتين ، معلنا رغبة واشنطن على اتخاذ نهج عملي فى استئناف عملية السلام التي طال انتظارها بين شطري الجزيرة المتحاربين. و لقد اصبحت عملية السلام القبرصية ذات أهمية قصوى بعد اكتشاف موارد الطاقة البحرية الكبيرة و هو الامر الذى تلازم مع الأزمة في أوكرانيا التى اضافت أهمية جديدة لنهج دبلوماسية التفاوض من اجل حل الازمة و فتح الباب امام الشركات العالمية للاستثمار فى مجال الطاقة . وحوض بلاد الشام هو امتداد المياه الإقليمية لقبرص وإسرائيل ولبنان وتركيا ومصر، والاستفادة من ثرواته يعد تحفيزا وتطويرا لهذه البلدان وسيخفض ايضا بشكل كبير اعتماد أوروبا على الغاز الروسي. و بالنسبة لقبرص، فان الحفر في البحر الأبيض المتوسط يمكن أن يصبح نعمة كبيرة خاصة و ان " نيقوسيا" لا تزال تتعافى من ازمتها المصرفية الحادة التي دفعت الاتحاد الأوروبي لإنقاذ البلاد وفرض شروط و اجراءات على الودائع اغرقت البلاد في حالة ركود. و لاستغلال حقول الطاقة فى مياة المتوسط العميقة ، هناك احتمالين لجني الأرباح : عبر بناء خط أنابيب يمتد عبر أراضي الأردنوتركيا واليونان وأوروبا أو بناء محطة تسييل للغاز الطبيعي برية والشحن يتم عن طريق البحر. و لكن الخيار الاخيرعلى الرغم من كونه أرخص بكثير، الا انه لا تفضله نيقوسيا، التي تسعى لزيادة نفوذها مع أنقرة من اجل الضغط لإعادة توحيد الجزيرة. هذا السيناريو يبدو تقريبا جيدا جدا اذا ساعدت واشنطن والاتحاد الأوروبي واستتب السلام ، و ستعم الثروة الاقتصادية الهائلة على قبرص في غضون بضع سنوات ، الا ان حل النزاعات البحرية مع تركيا يجب ان يقطع شوطا طويلا حتى يجعل من المشروع مجديا وبالتالي تحقيق الاستقرار الداخلي ، كذلك فان اجراء المزيد من العمل الاستكشافي سيزيد من جدوى عمليات استخراج الغاز و يقلل تكلفته . وتحقيق هذا امر ليس سهلا وسط النفوذ الروسى و مصالحها الكائنة فى الجزيرة المتوسطية حيث هناك مصالح روسية بعيدة المدى في قبرص من خلال استثماراتها في مجال الخدمات المصرفية والعقارات، بل أن الجزيرة تعتمد اعتمادا كبيرا على السياحة الروسية. ومن المحتمل أن تعرقل موسكو اى محاولة توحيد للجزيرة ، خوفا من ان تصبح قبرص مركز مستقبل الطاقة فى اوربا و انهيار النفوذ الروسى وقبضته على قطاع الغاز في أوروبا. لذا تقف قبرص الان على مفترق طرق بين وأوروبا، وروسيا و فضلا عن العلاقات المتداخلة في الشرق الأوسط ، لتتحول الى نقطة ساخنة جيوسياسية تسهدفها المصالح المتنافسة وتجعل مصالح الجزيرة و سكانها عرضة للخطر ، لذا يتعين على أوروبا التوقف عن النظر إلى شريكتها عبر الأطلسي و الاعتماد الدائم على واشنطن فى حل جميع مشاكل القارة العجوز ، و من ثم على اوربا اتخاذ مبادرات من أجل التخلص من القبضة الخانقة الروسية و سطوتها على مستقبل الطاقة الاوربية عموما .