لا شك أن الشهور الأخيرة تثبت للداخل والخارج أن الكتلة الأكبر، ولا أبالغ إن قلت الأغلبية من الشعب، قد حسمت أمرها لصالح الوقوف وراء بناء نظام سياسي جديد يضع العدالة الاجتماعية التي علت بها صيحات وصرخات الجماهير في يناير 2011 على رأس أولوياته، والتي لم تفلح كل القوى التي ظهرت على الساحة في الأعوام الثلاثة الماضية في وضع تصورات قابلة لتحقيقها على أرض الواقع وضاع القصد من خروج الشعب للمطالبة بحقوقه وسط مهاترات أيديولوجية وعقائدية لا تخدم سوى قلة من المتاجرين بالدين والتصنيفات السياسية على السواء. أقول ما سبق وقد رأينا في الأيام الأخيرة موجات الإرهاب والعنف وهي تتكسر على الصخرة الصلبة لرجال الجيش والشرطة في مناطق متفرقة من البلاد وهم يدفعون ثمن الدفاع عن مقدرات الشعب بإيمان كامل أن تضحياتهم هي في سبيل قضية عادلة لوطن ينشد الأفضل ويرنو بصره إلى "عدالة اجتماعية" تظلل الجميع فيما يواجهون قوى الظلام التي تمكنت من الحكم لفترة وجيزة عبر صناديق الانتخاب ومن تحقيق مأربها قبل أن يفيق الشعب إلى الكارثة التي حلت على السلطة فخرج في ثورة تصحيح المسار. قبل يومين، سعت قوى الإرهاب إلى إعادة إنتاج خطاب الكراهية والتقسيم الذي وضعت لبناته في الاستفتاء الشعبي على الوثيقة الدستورية في 19 مارس 2011، وقد كانت تلك الذكرى فرصة حقيقية للمراجعة والوقوف على أسباب صعود تيار يروج للانقسام والفرقة في مجتمع طالما عاش لقرون طويلة موحدا متماسكا صلبا رغم كل ما لحق به من ضيم وأوضاع اقتصادية حرجة على مدار تاريخه. وقد كان أولى بتلك القوى السياسية أن تقول لعموم المصريين "نحن آسفون" على سوء التقدير، وتمكين متطرفين من السلطة عبر سلسلة من التحالفات السياسية والانتخابية من تحالفات البرلمان إلى وثيقة "فيرمونت" سيئة السمعة، مرورا باستغلال الحماس الثوري لدى الشباب لتحقيق مآرب سياسية لم ننتبه إليها إلا بعد وصول جماعة الإخوان إلى قصر الرئاسة وتكشف تفاصيل مؤامرات كبرى مازال بعضها يعتمل على أرض الوطن بدعم من قوى محددة في الخارج التي أرادت أن يكون لها نصيب في صناعة القرار المصري وعندما فشلت مخططاتهم طار صوابهم وتحالفوا ضد الشعب وحشدوا أموالهم وقنواتهم للنيل من وحدة وصلابة المجتمع لكن جموع المصريين يقدمون كل يوم درساً لتلك الفئات التي لا تعي قيمة أو معنى المخزون الحضاري الرائع.. فهو رصيد ضخم للوسطية والاعتدال والتمدين حتى لو كان المجتمع مازال يصارع في معركة بناء دولة حديثة. غياب المراجعات عن القوى السياسية، التي نفترض أن لديها شعبية في الشارع، لا يصب في مصلحة بناء التوافق الوطني على القضايا الرئيسية وأكثرها إلحاحا اليوم، وقد كنت أتصور أن تبادر بعض تلك القوى إلى عقد جلسات موسعة قبل انتخابات الرئاسة لبلورة صيغة أكثر نضجا لمشروعاتها وبرامجها السياسية تمهيدا لوضعها على مائدة المرشحين في انتخابات الرئاسة المقبلة لإعانتهم في مهمتهم الشاقة من أجل إعادة البناء وتحديد أولويات البرامج الاقتصادية التي ستجر قاطرة تحقيق العدالة الاجتماعية. ما نراه.. على أرض الواقع، هو انجرار تلك القوى إلى الخصومة السياسية مع بعضهم البعض، كما لو كانت ثورة لم تقم وكما لو كانت دروس تصحيح المسار في 30 يونيو لم تصل إليهم، فمازالت شخصيات وأحزاب وقوى الفساد الهائمة تلعب على وتر الخلافات السياسية والعقائدية وتباين المذاهب السياسية وإثارة الرأي العام في توقيت لا يحتمل المجتمع المصري فيه رفاهية الأصوات الصاخبة التي لا تعي تبعات ما يجري من تهديدات ونزيف لمقدرات الشعب، وتصر على عدم تغيير خطابها تحت زعم أنها لا تتنازل عما سبق أن نادت به !! حقيقة الأمر أن تلك الحالة قد تمكنت من الخطاب السياسي لتلك القوى وصارت مادة للمتاجرة السياسية تغطي على غيابها عن الشارع وفشلها في ترك بصمة حقيقية لدى الناخبين- مثلها مثل القوى التي تاجرت بالدين وقدمت رشاوى انتخابية عينية فالأصل لديها كان الاحتيال على الناخبين ولم يكن نجاحا سياسيا كما يردد البعض. في تلك الأجواء.. هل ما سبق يصب في صالح إجراء انتخابات رئاسية تقف فيها القوى السياسية موقفا يتفق مع المصلحة الوطنية؟ وهل المصلحة الوطنية التي يتحدث باسمها الكثيرون على الساحة اليوم تتوافق وتلك الحالة الضبابية في أولويات البعض من الأسماء البارزة على الساحة؟ في اعتقادي.. الأجدر والأولى أن تصطف القوى السياسية لوقف التشويش المتعمد في المشهد السياسي بدلا من أن تشغل نفسها "بثقافة الباعة الجائلين وسائقي الميكروباصات" - مع كل الاحترام لتلك الفئات - حيث أنني أشير هنا إلى الصخب والضجيج وخرق القانون والاعتداء على الحق العام أو التسامح بشأن تلك الخروقات من قوى سياسية تتباكى على سيادة القانون ولا تتأثر بما تراه من عدوان على مقدرات الأمة والمصلحة العامة من القوى الضالة التي تريدها فوضى عارمة في سائر ربوع الوطن، فمن الأجدر بتلك القوى أن تنتصر لسيادة القانون أولا بدلا من التباكي على الخارجين على القانون وهي قوى ملأت الدنيا صراخا وهي ترى النظام السابق ينتهك القانون ويدشن مكتب إرشاده وصيا على الأمة ولكنها لم تستطع تقديم المثال في التعامل مع قضايا ملحة وآنية تمس المصلحة العليا المعرضة لتهديدات خطيرة. كان الأجدر.. بتلك القوى أن تقدم حلولا لقضايا مثل الاحتجاجات الفئوية والمطالب غير المشروعة من بعض الشرائح وانتشار ثقافة الابتزاز في المؤسسات العامة للدولة، ومحاولة البعض استغلال المناخ الحالي مثلما استغلت مناخ الفترة الانتقالية بعد 11 فبراير 2011 لتعطيل دولاب العمل والإنتاج وإشغال مؤسسات الدولة عن مرحلة إعادة البناء وتشتيت الأنظار عن استمرار مسلسل النهب والسلب دون وجه حق - آخره ملف التعديات على أراضي الدولة الذي تتصدى لها حكومة المهندس إبراهيم محلب بقوة اليوم ربما يقول البعض أن تلك مهمة الدولة ولكن حقيقة الأمر لم نر من القوى السياسية التي تريد مقعد الرئاسة أو مقاعد البرلمان ما يبشر بنضج سياسي يليق بالآمال التي يعلقها الناس عليهم ولن يمكنهم خوض الانتخابات القادمة بشماعة عدم تمكنهم من تقديم رؤى أو المشاركة في الحل لأن الفرصة كانت سانحة على مدى ثلاث سنوات ولكننا لم نعاين سوى كلام مرصوص وضجيج مصطنع لإخفاء غياب القدرات والكوادر الفاعلة. فوضى.. الاحتجاجات والاعتصامات والتظاهرات خارج القانون والقواعد المنظمة لها وخارج المطالب المشروعة التي تزكيها فلول الإخوان وقوى الفساد اللذان يبدو أنهما دخلا في صفقات جديدة على قاعدة المصالح تؤدي إلى تعطيل الدولة ومؤسساتها عن مواجهة شق الصف الوطني، وإشغاله بمعارك فرعية عن المعركة الوطنية ضد الإرهاب وعن الالتفاف حول الجيش والشرطة، وزرع فتنة بين هاتين المؤسستين الوطنيتين وقوى وطنية، في ممارسة مقيتة للإقصاء من قوى لاتدعي فقط إقصاءها وإنما مارسته بالفعل، وهو مايخلق مناخا مواتيا يعمل فيه الإرهابيون، فالمواجهة مع الإرهاب وجماعته لاتقل أهمية عن المواجهة مع قوى الفساد التي تحاول العودة عبر أدواتها، وتحسب أن عجلة الزمن ستعود للوراء وأنها صاحبة 30 يونيو وتناست أنها هي التي أدت إلى ثورة الغضب في 25 يناير وأوجدت المناخ الذي تراق فيه دماء رجال الجيش والشرطة.. ويبدو أنها لم تع الدرس أو تعتقد أن هاتين المؤسستين لم يستوعبا الدرس،..... فالتعامل مع الإرهاب والعنف كالتعامل مع الابتزاز والفساد يحتاج إلى مواقف معيارية حاسمة. ولو استمر النهج السابق ستكون الخسارة للجميع وليس لتلك القوى وحدها، فالدولة تواجه الإرهاب على أصعدة خارجية وداخلية وتواجه عمليات منظمة لتخريب الجبهة الداخلية، ومن مظاهرها كميات الأسلحة التي تدخل البلاد عبر حدودها و يجب ألا تضيع جهود المرحلة فيما لا طائل من ورائه سياسيا على الأقل. كل تلك.. التحديات قائمة وتدخل بها مصر معركة الرئاسة القادمة أو بالأحرى هي "التفويض القادم" وهو ما يشكل عبئا على أي مرشح يريد إعادة الانضباط وثقافة العمل والإنتاج إلى المجال العام المزدحم بصخب لا لزوم له.. خطوات الإصلاح ماثلة أمامنا وعلى كل القوى الوطنية أن تمعن النظر في مرحلة دقيقة لا تحتمل العراك السياسي ولكنها تفترض النضج وتحكيم العقل. .......................................................... أيام انتظار ظهور مرشحين لانتخابات الرئاسة القادمة هي فرصة حقيقية لإعادة ترتيب الأوراق بواقعية وإدراك أعمق لمشكلات المجتمع المصري التي لم تعد تحتمل رفاهية الاختلاف أو تفتيت القوى الفاعلة، لقد ضاع وقت كبير فيما لا فائدة أو طائل من ورائه.. فهل ننتبه؟! نقلا عن جريدة الأهرام