تقف منطقة القرن الإفريقي في الآونة الأخيرة وسط رمال متحركة، حيث شهدت في النصف الأول من العام الحالي تطورات عدة أسهمت في انقلاب موازين القوى لدى إثيوبيا واريتريا، وتعتبر اثيوبيا المستفيد الأول بعد خروجها منتصرة عسكريا في الصومال بعد معركتها ضد من تصفهم بالمتشددين الإسلاميين الذين هددوا بضرب أمنها القومي، وارتفع سقف تحالفها مع الدول الغربية إلى أعلى مستوى، فضلا عن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي قدمت لها دعماً عسكرياً وسياسياً غير محدود، في إطار التعاون الدولي المناوئ للإرهاب في المنطقة. وكانت واشنطن بالمرصاد لكل أشكال الضغط الإعلامي والسياسي ضد إثيوبيا التي استطاعت بتحالفها مع أمريكا إقناع الغرب بغض الطرف عن المعارضة الإثيوبية، التي فاجأت المجتمع المحلي والإقليمي والعالمي في تحريك الرأي العام الإثيوبي وتحريضه بالنزول إلى الشارع في أعقاب انتخابات التشريعية في 2005 التي رفضت نتائجها وصاحبتها أعمال عنف وفوضى كبيرة. لكن يمكن القول إن الأزمة الصومالية كانت خصما على المعارضة الإثيوبية حيث يعد العام 2007 عمليا نهاية لنشاطات المعارضة السياسية، ولم تبق الا المعارضة المسلحة التي تثير بعض العراقيل بدعم مسلح من جارتها اريتريا وهذه المشكلة أيضا تعد لها إثيوبيا العدة لرد أي عدوان اريتري محتمل عليها ومن خلفها على فلول المعارضة الإثيوبية المسلحة على الرغم من أن احتمالات اندلاع الحرب بين إثيوبيا واريتريا مستبعدة على الأقل في الوقت الراهن خصوصاً ان إثيوبيا مشغولة باحتفالات الألفية وتفرد لها مساحة كبيرة من الإعلام محليا وإقليما، وتتوقع مشاركة الآلاف من السياح الذين يتوافدون عليها من جميع أنحاء العالم كما ان موسم الأمطار المبكر الذي ضرب الهضبة الحبشية وأجزاء واسعة من اريتريا تسبب في تعطيل الطرق البرية المستخدمة، ما جعل من الصعوبة بمكان التحرك والتنقل بين المناطق الحدودية. ويبقى عامل أخير هو ان مفوضية ترسيم الحدود ستحل قانونا في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لذلك فإن أي مغامرة عسكرية أو محاولة فرض أمر واقع بالقوة قبل هذه الفترة سيعد عملاً غير قانوني وغير مأمون العواقب. وفي الوقت نفسه لم تنته معركة إثيوبيا مع الصومال بعد وعلى الرغم من ان المراقبين يرون أن إثيوبيا أدخلت نفسها في مستنقع صومالي يرى آخرون أن أديس أبابا أمسكت بأوراق كثيرة ولا مناص أن تكون هناك تضحيات في سبيل الاستمرار بالإمساك بخيوط اللعبة في الصومال كما ان دخول القوات الإفريقية إلى الصومال بات مسألة وقت، وما يبقى هو الاتفاق بين الدول على الدعم المادي والعسكري للقوات الإفريقية. وتعتبر اريتريا المستفيد الثاني من الأزمة الصومالية فقد استطاعت من خلال بوابة الصومال أن تطبع علاقتها مع الدول العربية وأصبحت حليفاً رئيسياً للمعارضة الصومالية ويؤثر عن أسمرا انها محظوظة في الإمساك بملفات المعارضة، حيث سبق أن تبنت ملف المعارضة السودانية واستطاعت من خلاله أن تنشئ تحالفاً مع دول الغرب وأمريكا باعتبارها الشريك الرئيسي لما يعرف بالحرب على الإرهاب والتطرف في المنطقة في إشارة إلى الجبهة الإسلامية في السودان. وأسهم نجاح أسمرا في تبني ملفات المعارضة بشكل أو بآخر في تعضيد علاقتها مع الدول العربية والخليجية وفعلا بدأت أسمرا بالعمل بصمت، حيث من المنتظر أن يلتئم الشهر المقبل في اريتريا مؤتمر مواز للمصالحة الصومالية مناهض للحكومة والوجود الأجنبي في الصومال ويتوقع أن تحضر قيادات المحاكم الصومالية وأعضاء البرلمان المنشقون. ولم يكن اختراق الحذر الذي كان مفروضا على اريتريا من الدول العربية فقط بل تجاوزه ليصل إلى دول في الاتحاد الأوروبي، حيث استطاع الرئيس الاريتري اسياسي افورقي في لقاء جمعه في بروكسل بمسؤول الشؤون الاغاثية والإنسانية في الاتحاد الأوروبي لويس ميشيل توفير دعم لحكومة بلاده كما ان إمساك اريتريا ببعض خيوط الازمة الصومالية دفع دولا أوروبية مثل بلجيكا والسويد والنرويج إلى المطالبة بضرورة إشراك أسمرا في جميع محاولات حل الأزمة الصومالية باعتبارها شريكا أساسيا في عملية السلام في الصومال، واستطاعت أسمرا فك عزلتها الإقليمية باختراق محور دول تعاون صنعاء بإقامتها علاقات جيدة مع كل من السودان واليمن، ما يعني ان هواجس الدول العربية حيال اريتريا من أنها مصدر قلق وبؤرة لتأجيج الصراعات في المنطقة ومركز لقواعد “إسرائيلية” في البحر قد زالت في الوقت الراهن من أكثر الدول العربية وهذا ما يعكسه الحضور العربي والخليجي النوعي الذي شهدته فعاليات توقيع اتفاقية الشرق في أسمرا مؤخرا كما ان دعم أسمرا للمحاكم الشرعية أعطاها زخما عربيا تسبب في فك عزلتها رسميا وشعبيا. وفي ما يتعلق بالمعارضة الاريترية التي ظهرت كقوة في السنوات الثلاث الأخيرة وكانت تستمد قوتها من خصوم أسمرا الذين استقبلوها ووفروا لها الدعم وانتهاء بإعلان التحالف الاريتري المعارض ثم انشقاقه لشطرين اثر نزاع على السلطة في مؤتمر له في إثيوبيا مؤخراً، في الوقت الذي كانت فيه سكرتارية دول تعاون صنعاء تجتمع في أديس أبابا، وبانشقاق التحالف ورجوع المعارضة إلى المربع الأول أصبحت أسمرا في وضع مري ويمكن القول ان تحالف صنعاء أزاح المعارضة الاريترية من سلم اهتماماته ولم يتبق للحكومة الاريترية إلا التفرغ للمعارضة الداخلية وبعض الوزراء المنشقين من الجبهة الشعبية الحاكمة، مثل مسفن حقوص وزير الدفاع السابق وعدد من السفراء أبرزهم عبدالله آدم سفير اريتريا السابق لدى السودان، والذين باتوا يترددون على مناطق صنع القرار. وفي ما يتعلق بالعلاقة المتوترة بين أسمرا وواشنطن تحاول إثيوبيا جاهدة استغلال هذا الرأب المتصدع بين الطرفين بتمتين تحالفها مع واشنطن واستغلال استضافة أسمرا للمحاكم الإسلامية التي تتهم بالتطرف والمطالبة بوضع اريتريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب من خلال تقديم الشكاوى للأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي واستغلال الهجوم الاريتري على واشنطن والذي يقوده أفورقي نفسه في عكس نوايا أسمرا في تأجيج الصراع في المنطقة لاسيما في الصومال، ما حدا بمساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية جنداي فرايزر إلى مطالبة دول عربية وخليجية بتوضيحات حول علاقتها بالحكومة الاريترية بعد تردد أنباء على أن أسمرا كانت جسرا في تقديم الأسلحة للصومال من إحدى الدول العربية. ويرى مراقبون أن واشنطن تريد عزل اريتريا عن المحيط العربي، ريثما يتم التمهيد لمعالجات أخرى، وفي المقابل فإن أسمرا تريد كسب الوقت حتى يحين رحيل الجمهوريين من البيت الأبيض ووصول الديمقراطيين إلى سدة الحكم في أمريكا، الذين يعتبرون تاريخيا أحد أقوى حلفاء الجبهة الشعبية الاريترية وبقدومهم ستنتهي الأزمة مع واشنطن. وفي كل الأحوال، تبقى الأزمة قائمة في منطقة القرن الإفريقي، ويعزوها كثيرون إلى أن واشنطن هي دائما الحاضرة الغائبة في صراعات المنطقة.