الوفد فى 2/11/2007 خلال العقود الثلاثة الماضية، بُذلت من قبل الدولة جهود لتطوير وتحسين النظام التعليمي الجامعي وما قبل الجامعي، وكان التعليم يتصدر الخطاب السياسي الرسمي للقيادة السياسية، كما أنه كان علي أولوية أجندة العمل الوطني خلال العقود الماضية، ولكن للأسف وباعتراف العديد من قيادات التعليم، مازال التعليم المقدم لطلابنا، تعليماً متدنياً علي جميع الأصعدة، وذلك يستلزم - ضمن ما يستلزم - بذل المزيد من الجهود نحو تطوير التعليم وتحقيق جودته في أفق أرحب وأوسع وأكثر إنسانية واتساقاً مع حقوق الإنسان وجميع المواثيق الدولية التي وقعنا عليها. ولكننا نفاجأ كل يوم بتصريح لوزير التعليم العالي أو التربية والتعليم، بأن هناك توجهاً بالفعل نحو وجود تعليم متميز مدفوع الأجر بمبالغ تفوق طاقة أبناء الطبقات الوسطي - إن وجدت - ويقدم لهؤلاء القادرين مالياً علي تحمل كلفته، سواء كان ذلك من خلال برامج التعليم المتميز المجاور للتعليم غير المتميز في ذات الكليات الحكومية، أو في صورة إنشاء كليات للمتميزين. والغريب في الأمر أن وزارة التعليم العالي أعلنت عن البدء فعلاً في إنشاء ست كليات جامعية للمتميزين! بجامعات القاهرة، وعين شمس، والإسكندرية، وأسيوط، والمنصورة، وحلوان، وهي كلية العلوم والتقنيات الحديثة بجامعة القاهرة، وكلية الصحة العامة وإدارة الصحة بجامعة عين شمس وكلية الدراسات العليا للتكنولوجيا الطبية الحيوية وزراعة الأعضاء بجامعة المنصورة وكلية الإسكندرية للتكنولوجيا بجامعة الإسكندرية والكلية التكنولوجية للصناعات المتقدمة بجامعة أسيوط وكلية إدارة الأعمال بجامعة حلوان. والسؤال الآتي: أين التميز في تلك الكليات والتخصصات؟! إلا إذا كان ذكر كلمة تكنولوجيا يعد تميزاً، إنها كما نري تكرار لمسميات أقسام ودراسات حالية بذات الكليات الحكومية، فهل التميز في الطلاب؟! أم الأساتذة؟! أم المباني التي ستنشأ؟ والمفاجأة الكبري أنه خلال ذات الشهر »أكتوبر الماضي« صرح السيد الأستاذ الدكتور وزير التربية والتعليم بأن هناك خطة لدي الوزارة لإنشاء مدرسة للمتفوقين بكل محافظة من محافظات مصر، والسؤال الملحاح هنا أيضاً: هل هؤلاء الطلاب المتخرجون من مدرسة المتفوقين المزمع إنشاؤها هم مدخلات الكليات الجامعية المتميزة في المستقبل القريب؟! وهل هناك تلازم وتنسيق بين الوزارتين في هذا الموضوع؟! والإجابة معروفة سلفاً. ولكن الأمر الغريب في تصريح وزير التربية والتعليم أن العالم كله يتجه نحو سياسة الدمج وليس العزل، لم يعد العالم يتقبل عزل المتفوقين أو ذوي الاحتياجات الخاصة في مدارس أو فصول دراسية مستقلة. هناك توجه عالمي في التربية يجري منذ أكثر من عقد من الزمان حول سياسة الدمج وليس العزل، لما في الدمج من آثار إيجابية اجتماعية ونفسية تعود علي الطلاب ومجتمع المتعلمين بالمساواة، كما أنها توفر فرص المنافسة العلمية لمزيد من التفوق، ناهيك عن أن وجود متفوقين أو متميزين مع العاديين يساعد علي النهوض بجعل التميز متاحاً للجميع وليس للقلة. إن التعليم كان ومازال حقاً من حقوق الإنسان وهو تعليم مجاني يكفله الدستور والقانون، وأن الدول الساعية نحو التقدم تعتمد التعليم البوابة الكبري للدخول إلي عالم التقدم، لأننا لا يمكن أن نتقدم بشعب جاهل، أو غير متعلم أو بشعب ثلث أفراده متعلمين والبقية ترزح تحت نير الأمية ووطأة الجهل. من هنا كان تأكيد السيد رئيس الجمهورية أن التعليم في مصر قضية أمن قومي لا يقل أهمية عن الجيش، فإذا كان الجيش يقود جنوده لمواجهة العدو الخارجي وحماية أمن الوطن، فإن التعليم يعد أفراده جنوداً لحماية الوطن من الداخل. ولقد تدعم ذلك الأمر خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أننا فوجئنا بأن أجندة الحزب الوطني الديمقراطي يتواري فيها التعليم لينزوي في أحد أركانها مستسلماً للضغوط التي تمارس عليه، فتواري التعليم وأصبح علي أجندة »الرعاية الاجتماعية« (التعليم، الصحة، الإسكان)، ولم يحتل محور التعليم تلك الأهمية التي ظل يحتلها مع مستوي الخطاب الرسمي خلال العقود الثلاثة الماضية، وتلك مفاجأة كبري، تنم عن أن سياسة تحرير الخدمات التي وضعتها »منظمة التجارة العالمية« بحلول عام 2010 قادمة لا محالة، وأن الحكومة قد أهلت نفسها بتحرير الخدمات بمحاولة زرع نماذج تشبه النتوء في الجسد داخل النظام التعليمي الجامعي، وما قبله كمحاولة لتفكيك تلك المنظومة التي حافظت لسنوات طويلة علي هوية الوطن والمواطنين، وعلي الثقافة الوطنية وعلي حق غير القادرين الذين حرموا من التعليم لسنوات طويلة بحكم وضعهم الطبقي والاجتماعي في التعليم. والجديد في توجه أجندة الحزب الوطني المقبلة هو التعامل مع التعليم بوصفه »مرفق خدمات« وليس »قضية أمن قومي«، وليس بوابة للتقدم والاصطفاف بجوار الدول المتقدمة الناجزة لمشروعها الوطني القائم علي تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. إن تلك النظرة الخدمية للتعليم لا تتعامل معه بوصفه أكبر استثمار في البشر ولا بوصفه الوسيلة والأداة الوحيدة لإنجاز التقدم، فثورة المعرفة والمعلومات والتقدم التقني المذهل الذي نعيشه، كان نتيجة لجهد الإنسان وسيطرته علي الآلة وليس لجهد الآلة وسيطرتها علي الإنسان، إن التعاطي مع التعليم بوصفه خدمة يعد تراجعاً علي اعتماد التعليم بوصفه أداة التقدم، كما أن التجارب المعاصرة لم تحرز التقدم إلا من خلال نظم تعليمية قوية ومجانية وذات جودة عالية (تجربة محمد علي في بناء الدولة الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر، تجربة اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وتجربة روسيا، وأمريكا والعديد من بلدان أمريكا اللاتينية«، هذا هو درس التاريخ الذي يجب أن نعيه ونفهمه بشكل يحقق مصالحنا الوطنية قبل الخضوع لمتطلبات الأجندات الدولية، كما أنه يحقق شعار الحزب في المرحلة المقبلة وهي قضية »العدالة الاجتماعية«، لأن ما يطرح من سياسات يتناقض مع التوجه العام. هذا إلي جانب أن ثروة مصر من البشر وفي أبنائها، أنها القوي المتاحة لنا في السوق العربية والأفريقية وغيرهما، إن بناء البشر وتنميتهم وتنمية قدراتهم الذهنية والعملية والحياتية من خلال تعليم كفء قادر علي المنافسة بعيداً عن الطبقية، هو الاستثمار الأمثل والمتاح أمامنا. ناهيك عن أن التعليم المصري يعاني من العديد من الازدواجيات في التعليم ما قبل الجامعي والجامعي، فهناك التعليم الحكومة الرسمي، والتعليم الخاص الاستثماري، والتعليم الأجنبي، والتعليم الأزهري، ناهيك عن المدارس الأجنبية (الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية) وجامعاتها، وأصبحت الجامعات الخاصة تعادل في العدد الجامعات الحكومية التي بدأت أهلية عام ،1908 وضمت إلي الدولة عام ،1925 إلي أن ظلت علي حالها للآن، في خلال أقل من خمس سنوات سمح للعديد من الجامعات الخاصة والأجنبية، بحيث تم التوازن بينها وبين جامعات الحكومة، وعلي الرغم من فتح الأبواب علي مصراعيها أمام القطاع الخاص ليستثمر في التعليم ويحقق مطالب الفئات الغنية والقادرة، إلا أن الحكومة تحاول أن تحرم أبناء غير القادرين من فرصة تعليمهم وتأهيلهم لاحتلال مواقع في إدارة هذا الوطن. والذي لابد أن ننتبه إليه، أن الجامعات الخاصة والأجنبية ليست جامعات ذات بناء فخيم وأجهزة وأساتذة ومناهج ومقررات دراسية، إنها في الواقع بيئة تعلم وتعليم، وبيئة ثقافية تدعم مفردات تلك الثقافة وأنماط سلوكها، وقيمها ومفهومها عن الوطن والوطنية والحق والباطل والخير والشر إلي غير ذلك من المكونات الثقافية التي تنشغل بها تلك الجامعات إلي جانب دورها التعليمي. فمثلاً لو أمامك طالب خريج الأزهر وآخر خريج الجامعة الأمريكية، ربما يتعادل الاثنان في المعرفة والمعلومات، لكن من المستحيل أن يتعادلا في الإطار الثقافي والمرجعي المكون لهما ومفاهيمها عن العالم والحياة والعدالة وتكافؤ الفرص، هذا أتي من إطار ثقافي تعليمي مناقض تماماً لذلك. إذن النتيجة أو الكارثة التي نحن بصددها هي تمزيق وحدة الوطن وهويته وثقافته وإراقة دمه بين القبائل، هذا ما نخشاه وهذا ما نسعي إلي أن ننتبه إليه وندق أجراس الخطر، أن التوسع غير المسبوق في تلك الجامعات والازدواجية في أنماط التعليم يعمق التناقض الثقافي بين أبناء الوطن الواحد إلي جانب تعميق التناقضات الطبقية والاجتماعية والذي يتولد عنها صراعات ستدمر المجتمع لاحقاً. من هنا فإن سعي وزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي نحو إنشاء مدارس للمتفوقين تصب مباشرة في الكليات المتميزة، يعني في التحليل الأخير، وجود تمايز طبقي واجتماعي منذ النشأة وإشاعة روح من الدونية بين طلاب التعليم العادي غير المتميز علمياً أو اجتماعياً، ناهيك عن أن الطلاب القادرين والمتميزين اجتماعياً وليس معرفياً أو ثقافياً ستفتح أمامهم بوابة الجامعات الخاصة والاستثمارية والأجنبية، وكذلك فرص العمل المتميزة والمتاحة في السوق ولا يبقي للكادحين من أبناء هذا الوطن سوي تعليم حكومي رسمي سيصبح أكثر تدنياً مما هو عليه الآن، ولن تكون هناك فرص للعمل أمام هؤلاء الطلاب، ومن هنا سيرتبط نوع التعليم وكلفته بفرصة العمل في السوق وتلك كارثة. وربما يكون هناك في المستقبل القريب 2010 دعوة لبيع الجامعات الحكومية لأنها تخسر، ولأن التعليم بها متدنٍ ويلزم إطلاق الطاقات الفردية للقطاع الخاص الأجدر علي إدارة تلك الجامعات التي ستصبح فاشلة وفق قواعد ومعايير التقويم والجودة التي ستطبق قريباً.. إن الأمر جد خطير، ويمس الأمن القومي الوطني وبناء الإنسان المصري، المنتمي إلي وطنه وإلي أمته وعالمه الأكبر، من هنا فلابد من مراجعة تلك السياسة قبل أن تندفع العجلات في السير نحو الهاوية. إن الآمال الكبار كانت معلقة علي مؤتمر الحزب الوطني الذي سيعقد في 3/11/،2007 علي أن يفك الاشتباك وتفك الألغاز، ويطرح بشكل علني وحازم أن قضية محدودي الدخل التي ينحاز إليها السيد رئيس الجمهورية والتي هي مفردة أساسية في كل خطاباته منذ تولي إدارة هذا الوطن، هي علي أجندة العمل الوطني، وأن محور التعليم لابد أن يتاح للجميع، وأن يكون التعليم للتميز، وأن يكون التميز للجميع، خاصة محدودي الدخل الذين هم الأولي بالرعاية والاهتمام، نظراً لظروفهم الاجتماعية والاقتصادية التي نعرفها جميعاً، لكن الخشية أصبحت كابوساً، حينما تراجع التعليم علي الأجندة ليصبح من مكون الرعاية الاجتماعية والصحة وليس قضية أمن قومي أو بوابة للتقدم ومدخلاً جوهرياً للاشتباك مع مستجدات العصر التي لا يمكن التعاطي معها إلا بنظام تعليمي عالي الجودة ومجاني، إن التعليم للجميع ضرورة من ضرورات الجودة وليس خصخصته أو التخلي عنه أو تقسيمه إلي متميز وفاخر ومتوسط ومتدنٍ، لا يجب أن ترتبط جودة التعليم بالمجانية، فالمجانية حق لا يعوق جودة التعليم. نحن في حاجة إلي حكومة تستوعب رؤية السيد رئيس الجمهورية الذي ينحاز بطبعه وسياساته نحو محدودي الدخل، نحن في حاجة إلي حكومة تنفذ رؤية السيد رئيس الجمهورية، ولا تلتف حولها بمسميات ونظم تعوق مسيرة تقدم هذا الوطن، وتسعي بكل جهدها نحو تكريس الطبقية في الواقع الاجتماعي المعيش. المزيد فى أقلام و آراء