أعطى إغلاق السفارات الغربية في الشرق الأوسط انطباعا كبيرا لدى العديد من المحللين و الخبراء بأن هزيمة تنظيم القاعدة لا زالت أمرا بعيد المنال على الرغم من التأكيدات المخابراتية الامريكية بأن التنظيم الدولي كان يتعرض لنكسة و تراجع كبير . وإغلاق السفارات نهاية الأسبوع الماضي يعنى فى الحقيقة ان تنظيم القاعدة مازال قويا و يعمل بارتياح كبير ، و قد أثبت قدرته على تعطيل عمل الحكومات الغربية عن طريق إجبارها على إغلاق مؤقت لعشرات البعثات الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم العربي، فيما لم يكشف عن طبيعة و نوع هذا التهديد الذى دفع حكومة الولاياتالمتحدة لبدء مثل هذه الإجراءات المتطرفة، و هو ايضا ما فعلته الخارجية البريطانية بإغلاق البعثة الدبلوماسية فى اليمن. صحيقة الديلى تلجراف البريطانية تقول ان مسؤولي الاستخبارات الأميركية مقتنعون بأن تنظيم القاعدة يخطط لهجوم كبير خلال اجازة عيد الفطر ، التي تأتي في نهاية شهر رمضان. لكن لا تعلم المخابرات على وجه التحديد طبيعة التهديد او اين سيكون ، إلا أنهم يقولون إن الهجوم القاتل يرتبط بخلية تنظيم القاعدة الناشطة في اليمن، وهو البلد الذي مزقته الحرب وتمتد سلطة الحكومة بالكاد لخارج حدود العاصمة القديمة، صنعاء.. وتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية قد برز في السنوات الأخيرة باعتباره واحدا من أكثر فروع تنظيم القاعدة شراسة. الأحداث الاخيرة وحالة التأهب الأمني العالمية تشير إلى أن جميع الجهود التي تقوم بها وكالات مكافحة الإرهاب الغربية غير مجدية ،فلا يزال تنظيم القاعدة يشكل تهديدا كبيرا للامن الغربى . وإغلاق البعثات الدبلوماسية على نطاق واسع يبدو من المؤكد أنه يتعارض مع اعلان الرئيس أوباما في الصيف الماضي أن "الحرب على الإرهاب" كادت تقترب من نهايته، حينما اعلنت واشنطن نجاحها فى قتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة فجر الإثنين 2 مايو 2011 في أبوت آباد الواقعة على بعد 120 كم عن إسلام أباد في عملية اقتحام استغرقت 40 دقيقة أشرفت عليها وكالة الاستخبارات الأمريكية ونفذها الجيش الأمريكي. و مقتل بن لادن ، جنبا إلى جنب مع غارات الطائرات بدون طيار التى استهدفت عشرات من كبار إرهابيي القاعدة الذين يختبئون في المنطقة الجبلية النائية بين أفغانستانوباكستان ، استخدمت لتبرير انسحاب وشيك لقوات حلف شمال الاطلسي و القوات الأمريكية من أفغانستان، حيث اعلنت قيادة الحلف ايضا ان تنظيم القاعدة لم يعد لديه القدرة على ترويع الغرب، وليس هناك حاجة للجنود الأمريكيين والبريطانيين لمواصلة المخاطرة بحياتهم. إعلان أوباما و التحضير للانسحاب المرتقب من افغانستان عززا الانطباع بأن أمريكا توشك على انهاء حربها الطويلة ضد القاعدة .. و هو ما اكده ايضا وزير الخارجية الامريكى جون كيرى الاسبوع الماضي خلال زيارة قام بها إلى باكستان ، وألمح خلالها ان واشنطن تخطط لإنهاء هجماتها بطائرات بدون طيار المثيرة للجدل في المناطق القبلية "قريبا جدا جدا"، وذلك لأن تنظيم القاعدة لم يعد يشكل تهديدا. و لم تكد تمر ساعات على تصريح كيرى ، حتى اضطرت الخارجية الامريكية لاعلان تشديد التأمين الفوري لجميع سفاراتها وقنصلياتها في العالم العربي، خوفا من أن تنظيم القاعدة يخطط لتكرار هجوم مماثل لهجوم سبتمبر الماضي على القنصلية الامريكية في بنغازي في ليبيا، والتي راح ضحيتها السفير الأمريكي كريس ستيفنز وثلاثة موظفين آخرين. و كانت إدارة أوباما قد واجهت و مازالت تواجه انتقادات عنيفة بسبب هجوم بنغازي، وخاصة عندما تم الكشف عن أن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة ، قد تجاهلت تحذيرات من أن تنظيم القاعدة كان يخطط لهجوم محتمل ( خاصة وان السير دومينيك اسكويث، سفير بريطانيا لدى ليبيا، قد سبق ان نجا فى وقت قريب من عملية اغتيال بتدبير من تنظيم القاعدة). و قد عمدت حكومة الولاياتالمتحدة لتضليل الرأي العام الأميركي حول طبيعة الهجوم، مدعية أن الهجوم كان عبارة عن مظاهرة خرجت عن نطاق السيطرة، بدلا من كونه عملية تابعة لتنظيم القاعدة تم التخطيط لها بعناية. اما هذه المرة، فقد حرص وزير الخارجية جون كيري والمسؤولين في حكومته على اتخاذ الاجراءات اللازمة لمواجهه اى هجوم محتمل ، حتى وإذا لم تكن المعلومات المخابراتية صحيحة. ويرى بعض الخبراء والمحللين ان الاجراءات التى اتخذتها واشنطن و بعض الدول الاوربية مؤخرا تعكس أحد الجوانب أكثر احباطا من الحملة التي استمرت عشر سنوات ضد تنظيم القاعدة والإرهابيين الإسلاميين الأخرى. و هو ما علق عليه المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، الجنرال ديفيد بتريوس، قائلا ان الغرب اصبح فى حاجة إلى تبني سياسة "الضربة الهجومية المشتركة"، بحيث يمكن التعامل مع مختلف خلايا القاعدة التى ظهرت في جميع أنحاء العالم في نفس الوقت. لكن يبدو ان الامر اصبح يشكل مشكلة ، بالنظر الى نشاط تنظيم القاعدة، الذى شهد تزايدا فى الفترة الاخيرة ، سواء حينما نجح التنظيم فى التخطيط لهروب جماعى من السجون ، كما حدث مؤخرا في العراق وليبيا و باكستان، أو فى محاولة استغلال الموجة الأخيرة من الانتفاضات العربية لتتناسب مع ألاجندة إلاسلامية الخاصة به. و خلال الانتفاضات العربية التى خرج فيها المحتجون المناهضون للحكومة لشوارع العواصم العربية الكبرى منذ عامين للمطالبة بالإصلاح و الديمقراطية، كان الغرب وحتى الآن ينظر إليها بانها مسمار اخر في نعش تنظيم القاعدة. فالمتظاهرون يريدون الديمقراطية والازدهار الاقتصادي، وليس الشريعة وريدون القضاء على النظم السلطوية والحكومات القمعية. ولكن الان كلما تعثرت الاحتجاجات، كلما نجح تنظيم القاعدة بهدوء فى الاستيلاء على المبادرة لنفسه، واستغلال قلة خبرة الحكومات المثبتة حديثا في بلدان مثل تونس وليبيا ومصر. فقد تم استهداف الساسة العلمانيين الذين يعبرون عن معارضتهم للحكومات إلاسلامية ، حيث اغتيل اثنين من العلمانيين البارزين في ليبيا وتونس في الاسابيع الاخيرة ، كذلك فان الفوضى التي حدثت في ليبيا خلال الإطاحة بنظام القذافي ، كانت ذات فائدة كبرى لتنظيم القاعدة.. الذى حاز على ترسانة كبيرة من الاسلحة الليبية ، بما في ذلك صواريخ مضادة للطائرات تطلق من على الكتف ، كما سمح سقوط القذافي لازدهار خلايا القاعدة مع الإفلات من العقاب في جميع أنحاء ليبيا ، وهو ما سمح لأنصاره بالسيطرة على مناطق واسعة من دولة مالي المجاورة. ولكن الإنجاز الاكبر لتنظيم القاعدة والأكثر إثارة للإعجاب هو نجاحه في إعادة تأسيس موطئ قدم في العراق، و بذل قصارى جهده لإثارة جولة جديدة من الصراع الطائفي ، وفي سوريا ، نجح فى اختراق الحركة المعارضة المعتدلة في سوريا، كما تمكنت جبهة النصرة، التي لا تخفي ولاءها لتنظيم القاعدة، فى إثارة حرب أهلية داخل الحرب الاهلية القائمة بالفعل ، حينما نجحت فى اغتيال قائد بارز في الجيش السوري الحر. و يهدف تنظيم القاعدة بشكل رئيسى الى التخلص من نظام حكم الرئيس بشار الأسد وإقامة حكومة إسلامية لا هوادة فيها في دمشق ، و هو ما يمكنه من السيطرة على مخزونات سوريا من الأسلحة التقليدية والكيميائية خاصة ، فخلال السنوات الماضية كان الحصول على أسلحة الدمار الشامل واحدا من اهم أهداف تنظيم القاعدة المركزية ، وبالتالي تزايد قدرته على محاربة الغرب على نطاق اواسع و اخطر و اشد فتكا . وحتى الان فشل تنظيم القاعدة فى الحصول على مثل هذه الاسلحة ، و لكن اذا نجح احد فروعها فى سوريا ا وفى اى مكان آخر في العالم العربي من وضع أيديهم على هذه الأسلحة المدمرة، فان إدارة أوباما وحلفائها سوف يكونوا فى خطر شديد و سيكون لديهم ما يقلق اكثر بكثير من أمن البعثات و السفارات الدبلوماسية.