لاتزال ذكريات الطفولة في كفر المصيلحة تلازمني.. كنت كابتن فريق الهوكي في مدرستي.. الاصدارات الثقافية القديمة قدمت لجيلنا روائع الأدب العالمي وعرفتنا بكتاب عظماء أمثال طه حسين والعقاد والحكيم والرافعي.. يعجبني شعر البارودي وصلاح عبد الصبور.. أقرأ الآن كتاب فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر. هذا بعض مما قاله الرئيس حسني مبارك.. إلي مجلة الهلال لكن كل ما قاله يرسم حالة ثقافية بعض منها يمسنا: فكرا وصحافة وأدبا وبعض منا يمس العالم خاصة في قضية حوار الحضارات!. وهذا الحوار الثقافي مع الرئيس حسني مبارك أجراه الاستاذ مجدي الدقاق رئيس تحرير الهلال.. وفيما يلي نص الحوار: * سيادة الرئيس أعلم حجم مسئولياتكم ومشاغلكم وضيق وقتكم ولكنني أطمع في أن يكون الحديث أول حوار فكري وثقافي معكم حول قضايا الفكر والابداع والفنون وبعيدا عن السياسة. { لاشيء بعيد عن السياسة فالقضايا كلها متشابكة وقضايا الاقتصاد والعلوم والفنون والسياسة مترابطة وفكر الإنسان نتاج كل هذه الأشياء التي تشكل مع تأثيرات الواقع والممارسة والتجربة والحياة ثقافة البشر. * سيادة الرئيس: أولا كل سنة وحضرتك طيب بمناسبة عيد ميلادكم واسمحوا لي بأن يكون سؤالي الأول عن ذكريات النشأة والتكوين.. القرية.. الأسرة.. سنوات الدراسة الابتدائية.. هل ذهبت إلي الكتاب؟ كيف انتقلت إلي المدينة؟ ذكريات الطفولة والشباب ؟ { كل سنة ومصر وشعبها بخير.. ويسعدني أن ألتقي من خلالك بقراء مجلة الهلال فقد ساهمت في ثقافة أجيال متعاقبة من المصريين منذ صدورها مطلع القرن الماضي.. بما في ذلك الجيل الذي انتمي إليه. لاتزال ذكريات الطفولة في' كفر المصيلحة' تلازمني إلي الآن.. كنا نسميها في المنوفية آنذاك كفر باريس لأنها نجحت تماما في القضاء علي الأمية.. وكنا فخورين بذلك.. أتذكر أحاديث والدي لي ولإخوتي عن الإسلام وأنه يسر لا عسر.. وبعيد كل البعد عن التزمت والتعصب.. أتذكر كتاب الشيخ جعفر في الكفر, ثم مدرسة عبد العزيز فهمي الابتدائية, وسنوات الدراسة الثانوية بمدرسة المساعي المشكورة.. كنت أمشي من كفر المصيلحة إلي شبين الكوم في طريق الذهاب ثم العودة من المدرسة حوالي6 كيلومترات.. أذكر أنني تعلقت آنذاك برياضة الهوكي وكنت كابتن فريق المدرسة.. وجاء الانتقال إلي المدينة بعد أن التحقت بالكلية الحربية عام1947 ثم كلية الطيران عام1949. مبدعون وعظماء * سيادة الرئيس: أثناء رحلة الدراسة الأولي.. كيف كانت اهتماماتكم بالقراءة ؟ وكيف كان تأثيرها علي تشكيل شخصيتكم؟ { القراءة كانت المصدر الأول للمعرفة.. قبل عصر التليفزيون والفضائيات.. أتذكر سلسلة اصدارات دار الهلال. مجلة الهلال وروايات الهلال.. وكتاب الهلال.. كانت هناك أيضا سلسلة روايات الجيب.. ومجلات الرسالة للمرحوم الزيات و الثقافة للمرحوم أحمد أمين.. كانت هذه الإصدارات في مرحلة الصبا والشباب هي التي قدمت لجيلنا روائع الأدب العالمي.. وعرفتنا بشخصيات مصرية عظيمة مثل عرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول, وكتاب عظماء أمثال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ومصطفي صادق الرافعي وغيرهم. * سيادة الرئيس: بهذه المناسبة.. يري البعض أن الأجيال الجديدة لم تتعرف بالقدر الكافي علي أعمال هؤلاء الرواد للفكر والأدب والثقافة.. ألا تري سيادة الرئيس أهمية إعادة نشر إبداع هؤلاء الرواد وإتاحة أعمالهم لأجيال الشباب؟ { اتفق معك تماما.. وابدأوا بأنفسكم في دار الهلال.. لماذا لاتعيدون طباعة الأعمال الأدبية والفكرية الناجحة التي أصدرتها روايات الهلال و كتاب الهلال.. فضلا عن الإصدارات الأخري لسلسلة كتب اقرأ و أعلام العرب وغيرها.. إصدارات في طبعات شعبية تكون في متناول الشباب بأسعار رخيصة. * سيادة الرئيس: علي مدار رحلة الحياة.. نتوقف عند فنون الكلمة والصورة.. نعلم أنكم تشجعون الفنون والآداب وتقفون إلي جانب الكتاب والمفكرين والمثقفين.. هل وجدتم وقتا عبر مسيرة حياتكم للاستمتاع بفنون الرواية والشعر والمسرح والسينما والغناء والموسيقي؟ ومن هو المفضل لديكم في هذه المجالات؟. { الفكر والثقافة والفنون والآداب تمثل ذاكرة الأوطان وتراثها وعماد نهضتها.. ولدينا في مصر الكثير مما نفخر ونباهي به من حملة الأقلام والمبدعين.. كنت في مرحلة الدراسة الثانوية معجبا بشعر محمود سامي البارودي لارتباطه بثورة عرابي, ولأنه فارس السيف والقلم.. ومن الشعراء المحدثين يعجبني المرحوم صلاح عبد الصبور.. كنت حتي صرت قائدا لسلاح الطيران اصطحب أسرتي لدور السينما والمسرح.. وتراجعت فرص الاستمتاع بهذه الفنون مع تحملي المسئولية.. أسعد من آن لآخر بالاستماع لأم كلثوم ومشاهدة حفلات فرقة الموسيقي العربية بالتليفزيون. متاحف وثروة ** سيادة الرئيس: لماذا لم تنشأ في مصر وزارة للآثار والتراث القومي رغم أننا أغني بلاد العالم بآثارنا وتراثنا ؟ { لدينا المجلس الأعلي للآثار التابع لوزارة الثقافة.. والعبرة ليست بالمسميات أو بتحويله إلي وزارة.. وإنما المهم هو الحفاظ علي ثرواتنا من الآثار وحمايتها, واستكشاف ما يزال مطمورا تحت الأرض من هذه الثروة.. نمضي حاليا في مشروع المتحف القومي الجديد علي هضبة الهرم.. انظر للعمل الجاري حاليا لإحياء طريق الكباش, وإعادة تخطيط المناطق المحيطة بمعبدي الأقصر والكرنك.. انتهينا من ترميم وإعادة افتتاح المتحف القبطي, ومن تحديث العديد من متاحفنا وإنشاء متاحف جديدة.. بما في ذلك مدن الصعيد. * سيادة الرئيس: نتابع جهودكم لتخفيف المركزية في المجالين الاقتصادي والاستثماري ولتعزيز اللامركزية علي مستوي المحليات.. وعلي الرغم من ذلك فلا تزال هناك مركزية شديدة في مجال الثروة الثقافية تتركز في القاهرة والاسكندرية.. هل آن الأوان لتوزيع الثروة الثقافية علي كل محافظات مصر؟ { هذا صحيح.. وتذكر أنني قلت في كلمتي بمدينة أسيوط الشهر الماضي: إن التحدي الأكبر أمامنا خلال المرحلة المقبلة هو الاستمرار في تحقيق معدلات مرتفعة للاستثمار والنمو وإتاحة فرص العمل, والاهتمام في ذات الوقت بتحقيق عدالة توزيع ثمار التنمية بين المحافظات.. وكان ذلك من وراء طرح حزمة الحوافز الاضافية لتشجيع الاستثمار في الصعيد. ينطبق ذات الاهتمام علي توزيع ثروتنا الثقافية وأنشطتها علي مختلف المحافظات.. صحيح أن القاهرة والاسكندرية هما أكبر مدن الجمهورية, وتستأثران بالنسبة الأكبر من دور السينما والمسارح والمتاحف, ولكن هناك جهدا ضخما ومتواصلا للوصول بالثقافة لأبنائنا بمحافظات الصعيد والدلتا.. قصور الثقافة تلعب دورا مهما لتحقيق ذلك.. ومكتبات الأقاليم في إطار برنامج' القراءة للجميع'.. القنوات التليفزيونية المخصصة لمحافظات جنوبالوادي ومحافظات قناة السويس.. هناك حركة نشطة لأعمال أدباء الأقاليم تتولاها وزارة الثقافة.. فضلا عن نحو17 متحفا إقليميا في النوبة والأقصر وسقارة وسوهاج والمنيا والوادي الجديد والعريش وطنطا ورشيد ودنشواي, ومتحفين تحت الإنشاء في شرم الشيخ والغردقة. ثروة مصر الثقافية كباقي ثرواتها ملك لكل أبنائها وينبغي ألا تكون حكرا علي القاهرة والاسكندرية.. ولابد أن تصل الثقافة بمختلف أنشطتها لمدن وقري ونجوع مصر بشتي محافظاتها. عبقرية جمال حمدان * سيادة الرئيس: نال أربعة من أبناء مصر جائزة نوبل هم الرئيس السادات, ونجيب محفوظ, ود. أحمد زويل, ود. محمد البرادعي.. كيف تنظرون إلي هذا الانجاز الكبير ؟ وكيف تفسرونه ؟ { أشعر ككل المصريين بالفخر والاعتزاز.. فهذه هي قيمة مصر.. وهؤلاء هم أبناؤها.. مصر هي مثال حي لعبقرية التاريخ الذي ولد علي أرضها.. وعبقرية المكان التي تحدث عنها المرحوم د. جمال حمدان.. ومصر ستظل دائما غنية بأبنائها. * سيادة الرئيس: هل يمكن أن أسألكم عن الكتاب الذي تقرأونه الآن ؟ { كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر( فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري).. قرأت ملخصه عند صدوره منذ بضعة أشهر, وأعكف الآن علي قراءة نسخة أهداها لي الرئيس كارتر. * سيادة الرئيس: كيف ترون الانفتاح الثقافي في صلته بحرية التعبير والإبداع كحق من حقوق الإنسان؟ وكيف ترون صحافتنا الآن؟ وما رأيكم في الجدل الدائر حول حوار الحضارات والأديان أو صدامها؟ { حرية الرأي والتعبير حق ثابت من حقوق الإنسان, وكل حق يقابله التزام, وحريتي تقف عند حدود حرية الآخرين.. ومن الأنانية أن ننشغل بممارسة حقوقنا وحرياتنا دون الالتفات لالتزاماتنا تجاه الآخرين وتجاه المجتمع. ينطبق ذلك علي الانفتاح الثقافي وحرية الإبداع.. فهي مكفولة للجميع شريطة ألا تتجاهل خصوصيات مجتمعنا وموروثه الديني والثقافي.. فهذا ما حدث عندما غضبنا لما اعتبرناه مسيئا لمقدساتنا, واعتبره آخرون من خارج منطقتنا حقا أصيلا في ممارسة حرية التعبير والإبداع.. أما عن الجدل الدائر حول حوار الحضارات والأديان.. فنحن في حاجة لحوار حقيقي يلتقي حول القيم المشتركة للانسانية, يقوم علي قبول الآخر والتكافؤ والاحترام المتبادل, ويسعي لتحقيق المصالح المشتركة.. لأن نظريات صدام الحضارات تعبر في حقيقة الأمر عن صدام في المصالح. الصحافة في مصر الآن تعكس حركة وحيوية المجتمع.. البعض يسيء ممارسة حرية الرأي والتعبير.. وينظر لكل ما يجري علي أرض مصر من وراء منظار أسود.. ولكن العمل الصحفي يزخر بالعديد من الكتاب الجادين الذين يلتزمون الموضوعية وسلامة القصد وشرف المهنة وقواعدها.. والقاريء المصري ذكي ويستطيع أن يميز بين هذا وذاك. الوطن في أيديكم * سيادة الرئيس: ونحن نهنئكم بعيد ميلادكم بعد أيام قليلة.. وبعد هذه الرحلة الطويلة من العطاء لمصر.. كيف ترون هذه الرحلة؟ وماذا تقولون لشباب مصر.. وقراء مجلة الهلال ؟ { كانت رحلة شاقة.. ولا تزال.. أعتز بسنوات طويلة قضيتها بين صفوف قواتنا المسلحة.. أستعيد ذكريات ما خاضته من حروب.. أسترجع بوجه خاص ذكريات حربي الاستنزاف وأكتوبر.. وأحمد الله علي رعايته وتوفيقه منذ تحملي المسئولية نائبا ثم رئيسا للجمهورية.. فلقد مررنا بمراحل متعاقبة وواجهنا صعابا وتحديات عديدة في الداخل والخارج.. شاءت الأقدار أن أتحمل المسئولية في ظروف صعبة.. وكانت عناية الله معي ومع المصريين علي الدوام.. فحققنا معا لمصر إنجازات عديدة.. ولا نزال علي الطريق. أقول لشباب مصر إنهم أملنا في الحاضر والمستقبل.. أقول لهم إن مصر غنية بأبنائها.. وإنهم ثروتها الحقيقية.. وإن مستقبل الأوطان يظل في أيدي شبابها, وليس في أيدي الحظوظ أو المصادفات. وأقول لقراء مجلة الهلال إن عراقة هذه المجلة من عراقة مصر وشعبها.. كانت دائما ومنذ بدايات القرن الماضي نافذة شهرية للفكر والإبداع والثقافة.. وآمل أن تسهم بعطائها لهذا الجيل, كما أسهمت بعطاء وافر لأجيال متعاقبة من أبناء مصر.