جلست أشاهد نشرة الأخبار الدولية كعادتي كل ليلة في ساعة خصصتها لهذا الغرض حتى لا تطغى العادة على إهتمامات وإنشغالات أخرى. تصادف أن أحتوت النشرة في تلك الليلة على أخبار تتعلق بثلاث فتيات، فتاة من الباكستان، مالالا يوسفزاى، حطموا جمجمة رأسها لأنها أعترضت على منع فتيات أخريات من مواصلة تعليمهن. ويبدو أن مخرج النشرة في القناة أراد أن يؤثر بالمشاهد ويكسب للفتاة تعاطفا أكبر وللمعتدين غضبا أشد، فقسم الشاشة أربع لوحات، لوحة للفتاة وهي في المدرسة تلميذة ناعمة ومنضبطة، ولوحة لها وهي تهتف ضد ظلم مشايخ القبيلة ورجال الدين الذين أرادوا إخراجها وزميلاتها من المدرسة ووقف تعليمهن، ولوحة ثالثة لرأس لا تظهر تفاصيله بعد أن غطته اللفائف البيضاء، ولوحة رابعة لصورة بالأشعة تظهر فيها الجمجمة مهشمة وفي جانب من اللوحة تفاصيل خطة جراحية لتركيب أجزاء معدنية فى الرأس محل الأجزاء المفتتة. الفتاة الثانية من مصر يعرفها الناس كافة بإسم «ست البنات»... إستعانت بصورتها القناة التليفزيونية كإضافة مهمة في التفاصيل المتعلقة بجريمة تعرية مواطن آخر... ست البنات، فتاة يعريها من ثيابها جنود يرتدون الزي الرسمي. أراد مخرج النشرة من وراء التذكير بقصتها الإيحاء بأن من يبدأ بتعرية إمرأة في الشارع العام لن يتورع عن تعرية رجل... أظن أنه أراد أيضا الإيحاء بأن أمة لم تنتفض - وهي في عز ثورة - لتنتقم لست البنات أمة تستحق أن يخرج منها مرة أخرى الجنود أنفسهم، أو أقرانهم، إلى الشوارع بعد سنة أو أكثر ليصطادوا رجلا مصريا، ليس شابا ولا كهلا ولا أجنبيا، فيعرونه من ثيابه ويسحلونه ويدوسون جسده بالأقدام... لم تنتقم الأمة للرجل كما لم تنتقم للبنت... إستأنفت تخزين آلامها وتستعذب أحزانها وأوجاعها كما كانت تفعل أيام مبارك وأسلافه. ثالث البنات البنت الهندية، التي حرص صديقها على توصيلها إلى مسكنها خارج العاصمة، فتحرشوا بها وأنتزعوها من حمايته وأغتصبها منهم ثمانية، واحد بعد الآخر...لم تشبعهم فحولتهم فأستعانوا بالسكاكين والأدوات الخشنة. إنتفضت الأمة عن بكرة أبيها، فبعثت حكومتها بجسدها أو ما تبقى منه إلى مستشفى خارج البلاد درءا لمشكلات أمنية وتخلصا من مسئولية... وهناك ماتت الصبية. إقترب يناير من نهايته... جاء اليوم الذي ينتظره الهنود مع مطلع كل عام، إنه يوم الإستقلال. يأتون من كل فج عميق، كبارا وشبابا وأطفالا، يرتدون أجمل ما عندهم من ملابس ويتزينون بأغلى ما يملكون. حل العيد وكعادته في كل عام يحل بيوم منعش من أيام هذا الشهر... الشمس ساطعة ولكن غير قائظة كشمس أواخر ربيع الهند ولا محتجبة وراء سحب سوداء كشمس الصيف. الناس تصطف بالآلاف فى انتظار العروض، وأولها العرض العسكرى بالألوان الزاهية والقبعات المزركشة والخيول الأصيلة والأفيال «المدرعة» حاملة الجنود والسلاح تزفها الطبول وموسيقى القرب. وما إن ينتهى عرض العسكر إلا وتبدأ عروض الفرق الشعبية القادمة إلى العاصمة نيودلهي من الأقاليم الخاصة كبوتان وآسام ومناطق زراعة الشاى على سفوح الهيمالايا والولايات الهندية في أقصى الشمال ومن ولايتي أرض التاميل وكيرالا وغيرهما من الولايات في أقصى جنوب الهند. حل يوم الإحتفال كما يحل كل عام فى الإسبوع الرابع من يناير. الناس لم تظهر على جانبي طريق الراجباث حيث يقع البرلمان ودور الحكم وحيث تحتشد في العادة الفرق والجمعيات وآلاف الأغنياء والفقراء. لم تأت الفرق الشعبية ولم ينزل الجيش ولم يخرج سكان دلهي القديمة ولا الجديدة من بيوتهم ولا إرتدوا ملابسهم الجديدة. لم يظهر الصبيان والشباب بسراويلهم البيضاء وقمصانهم الملونة. ولم تستعرض الفتيات والنساء آخر ما وصل اليه الإبداع الهندى في نسج ورسم «الساريهات»، هذا الرداء النسائي الذى إنفردت بإختراعه وأبدعت في إرتدائه نساء الهند. رفض الهنود الإحتفال بعيد إستقلالهم لأن فتاة هندية مغمورة تحرشوا بها وأغتصبوها حتى الموت. يومها قالت النساء «كلنا أغتصبنا يوم أغتصبت «نيربايا». يومها، قالت الهند بشبابها وشيوخها: ما قيمة إستقلال أمة تسود فيها شريعة الإغتصاب؟