رسائل الs.m.s التي تلقتها الهواتف خلال الأيام الماضية لحث المواطنين على سحب أموالهم من البنوك، بدعوى أنها على وشك الإفلاس، كانت بمثابة صدمة لكل صاحب ضمير حي من جهة، ودللت، من جهة أخرى، على أن بيننا طابورا خامسا يعبث بأمن واقتصاد البلاد، ولولا أن شعبنا العظيم يعي أبعاد هذه الممارسات، لكانت الكارثة أكبر من أي تصور. وقد وردت هذه الرسائل، على الرغم من أن خطاب رئيس الجمهورية أمام مجلس الشورى كان بمثابة رسالة تطمينات موثقة بالأرقام والحقائق، أكدت متانة الاقتصاد، وثبات الوضع المالي، بل شرحت، بالأدلة، أن المستقبل يحمل في طياته ما هو أفضل، من خلال برامج عمل تتطلب، فقط، تضافر الجهود للوصول إلى هذا الهدف، وخاصة بعد أن استقرت السلطات الرسمية المختلفة في مواقعها، من خلال مشاركة شعبيه حقيقية ضرب فيها المواطن مثالا رائعا في الانحياز للديمقراطية، وهو الأمر الذي افتقدناه على مدى عقود عديدة. ولم يكن خطاب الرئيس هو رسالة التطمينات الوحيدة للمواطن، بل تزامن هذا الخطاب مع تصريحات وتحليلات المتخصصين في هذا الشأن، التي أكدت أن مصر بعيدة عن الإفلاس، وعن المخاطر التي صورها البعض، بل كانت هناك تطمينات من مؤسسات خارجية أيضا، إلا أن من راهنوا على سوء الأوضاع، لأسباب ندركها جيدا، استمروا في غيهم، ولذلك كان حقا على الرئيس أن يطلق عليهم "المفلسون". وبالعودة إلى ذاكرة القرون الأولى، فإن مصر لم تفلس أبدا، وبالعودة إلى عقود سابقة، سوف نجد أن مصر مرت بأوضاع أكثر سوءا، إلا أنها لا تفلس، وبالنظر في إمكانات مصر ومواردها، لا يمكن لأرض الكنانة أن تفلس، وبالبحث في الكتب السماوية، سوف نكتشف أن شعب مصر كان ثريا بكل معاني الكلمة، وبقراءة التاريخ سوف نجد أن شعب مصر كان سخيا على الأوطان من حوله، وليس ذلك فقط، بل على أمم ما وراء البحار. إذن.. ما حقيقة الأزمة؟. حقيقة الأزمة.. هي أن العشوائية ضربت السياسة الاقتصادية المصرية على مدى أكثر من نصف قرن، ونخر الفساد في كل مفاصل الدولة، واستحوذت قلة قليلة على مقدرات وخيرات الوطن، على حساب عامة الشعب، الذين أصبحوا بمثابة أجراء لدى هؤلاء، وتزامن ذلك مع تهريب أموال مصر إلى الخارج، ونهب خيراتها في الداخل، والأكثر من ذلك أن هؤلاء وأولئك، جمعوا بين نفوذ السلطة ونفوذ المال، فعاثوا في الأرض فسادا، فانتشرت الرشوة، وتفشت المحسوبية، وتركزت الوظائف القيادية في صفوف عائلات بعينها، من خلال التوريث المقنن في بعض الأحيان بلوائح منظمة، وقد أسهمت هذه الأوضاع في تفشي حالة الترهل واللامبالاة في صفوف الأيدي العاملة، وكان نتيجة ذلك، الهجرات المتعاقبة للعقول جماعية وفردية، وكان نتيجة ذلك أيضا تراجع الإحساس بقيمة الوطن والمواطنة، والنتيجة الطبيعية هي تراجع الانتاج، وتدهور الناتج المحلي، وتدني قيمة العملة. إذن.. هو إرث، أو بمعنى أصح بئس الإرث، الذي صاحب ثورة 25 يناير، والذي أصبح بمثابة كرة لهب تنأى بحملها أي حكومة مهما تصل درجة عبقريتها في التعامل مع الأزمة، وعلى الرغم من أنه كان يجب علينا أن نعي درجة المخاطر هذه، حتى يمكن العبور إلى بر الأمان، في أقل وقت ممكن، فإن العكس هو الذي حدث، فقد ازدادت الحالة الأمنية تعقيدا، على الرغم من ارتباطها الوثيق بالحالة الاقتصادية، التي لم تسلم هي الأخرى من معوقات عديدة، تمثلت في إضرابات عن العمل، واحتجاجات، وشل حركة الطرق في بعض الأحيان، بل إحجام رأس المال عن الانطلاق، مما أدى إلى تراجع الاستثمارات، وإغلاق مصانع وشركات، ونضوب عائد السياحة، وبالتزامن مع هذا وذاك، توقفت خطط الإحلال والتجديد، بل الصيانة، لعدم وجود موارد، فكانت النتيجة الطبيعية أعطالا متكررة في معظم المرافق، بل توقف البعض تماما عن العمل، ووسط كل هذا الركام، كان لزاما على الدولة أن تقوم بتثبيت مئات الآلاف من العمالة المؤقتة، وتعيين مئات الآلاف من العاطلين، في محاولات ترميم يائسة لذلك الإرث الثقيل. كان من المهم إذن.. أن تخرج القوى السياسية إلى الناس تطمئنهم على مستقبل البلاد والعباد، وكان من المهم أن تشرح أننا أمام ظرف طارئ يمكن أن تتعرض له أي دولة مهما تكن فتية، وكان من المهم أن تكون يدا واحدة مع السلطة الحاكمة، أيا كانت أيديولوجيتها، مادام الشعب اختارها عن اقتناع ورضا، وكان من المهم أن تتصدى لأي يد آثمة تحاول العبث باستقرار البلاد، وكان من المهم أن تبدأ مرحلة جادة من البناء والعمل، حتى يستعيد الشعب ثقته بنفسه، وتثبت للعالم الخارجي أننا أمة على مستوى المسئولية، وكان من المهم أن تؤدي وسائل الإعلام دورها المنوط بها في هذا الظرف العصيب بأمانة وفطنة، إلا أن العكس تماما هو الذي حدث، فراح الجميع يزايد على مقدرات الوطن، وعلى مستقبل المواطن، سواء بالتحريض، أو بإثارة الشائعات والبلبلة، وهو الأمر الذي أسهم في إطالة أمد هذه الفترة الانتقالية، التي ما كان لها أن تطول، وكانت النتيجة الطبيعية، أيضا، هي تخفيض التصنيف الائتماني لمصر دوليا، والنتيجة الطبيعية أيضا، هي محاولات رسمية لحماية الرصيد الاستراتيجي من العملات الأجنبية، أسفرت عن تراجع طبيعي في قيمة العملة المحلية، فتمايل المفلسون طربا وفرحا!. وسوف أستعين هنا ببعض المؤشرات والأرقام التي ذكرها الرئيس محمد مرسي في خطابه أمام مجلس الشورى من قبيل التذكرة والتي تتمثل في التالي: حقق الاقتصاد المصري خلال الربع الأول من العام المالي الحالي 2013/2012 "يوليو - سبتمبر 2012" نموا بلغ 2.6% مقارنة بنحو 0.3% خلال الربع ذاته من العام المالي 2012/2011، وبلغت قيمة الاستثمارات المنفذة خلال الفترة نفسها ما يقارب ال50 مليار جنيه بمعدل بلغ 11.1% للاستثمار. أسفرت معاملات الاقتصاد المصري مع العالم الخارجي عن تخفيض العجز الكلي بنحو الخمس، مقارنة بالفترة نفسها خلال العام الماضي، ووصلت معدلات التضخم إلى أدنى مستوى لها منذ قيام الثورة خلال الشهرين الماضيين. بلغ صافي الاحتياطات النقدية في نوفمبر الماضي 15.5 مليار دولار بزيادة 1.1 مليار دولار عن يوليو الماضي، كما ارتفع مؤشر السيولة المحلية إلى ألف ومائة مليار جنيه بزيادة قدرها 2% عن يوليو الماضي، بينما ارتفعت ودائع البنوك إلى ألف وثلاثمائة مليار جنيه مقارنة ب972 مليار جنيه للفترة نفسها من العام الماضي. حققت قناة السويس ارتفاعا في عوائدها منذ يوليو حتى أكتوبر الماضيين زاد على الملياري دولار، وهو أكبر رقم سجلته القناة في ربع عام منذ فترة بعيدة. وربما كانت هذه الأرقام وغيرها هي ما جعل رئيس الدولة قد بدا مطمئنا في خطابه وواثقا من المستقبل، مستشهدا بآيات من القرآن الكريم "وفي السماء رزقكم وما توعدون".. "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، وذلك قبل أن يرصد عددا من المشروعات الكبيرة الواعدة التي ينتظرها الاقتصاد المصري خلال الفترة المقبلة، والتي أرى أنها تحتاج في تنفيذها إلى مجموعة قرارات فورية، من شأنها إعادة الانضباط للشارع المصري، والهدوء للشارع السياسي، والوعي للمشهد الإعلامي، وذلك لأنها جميعا تصب في خانة الاقتصاد الذي لن ينطلق بدونها، ومع تشكيل حكومة جديدة أعتقد أن توجيهات الرئيس لن تخلو، بأي حال، من هذه المحاور أو التكليفات التي يجب أن تكون واضحة ومحددة ومقنعة للمواطن، الذي ضج من ممارسات غير مألوفة طوال الشهور السابقة، وكانت جميعها تتم تحت ستار الديمقراطية وحرية التعبير، وهو الأمر الذي كلف الاقتصاد المصري غاليا، ودفع معه رجل الشارع ثمنا باهظا. وبالعودة إلى حالة الاقتصاد المصري تجدر الإشارة هنا إلى ما أكده السيد منير الزاهد، رئيس بنك القاهرة، ل"الأهرام"، من أن كل المؤشرات تؤكد قوة وجدارة الجهاز المصرفي في مصر، حيث حقق 17 مليار جنيه أرباحا العام الماضي، وسدد 8 مليارات جنيه ضرائب للدولة، كما أن حجم السيولة بالقطاع المصرفي مطمئن جدا أيضا، حيث تصل نسبة القروض إلى الودائع ل50% مقارنة بنحو 75% في الدول الأوروبية، وبالتالي فليس هناك ما يقلق على الإطلاق، لأن السيولة متوافرة، والودائع مستقرة وآمنة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن معدل كفاية رأس المال يصل إلى 14% من إجمالي المركز المالي للبنوك، وهي نسبة عالية جدا مقارنة ب8% هي المعدل العالمي وفق معايير ومقررات "بازل2"، ومن المؤكد استقرار سعر الجنيه، حيث إن التطبيق الحالي بمثابة التجريبي، ولايزال الطلب أكثر من الحقيقي، وذلك لأن المضاربات لن تنتهي بين يوم وليلة، ولكن مؤكد أنها ستتوارى بعد فترة، كما أن قرار رئيس الجمهورية "الحد الأقصى للراكب من الدولار سواء للداخل أو الخارج 10 آلاف دولار" سوف يسهم في غل المضاربات، بالإضافة إلى أن الآلية الجديدة التي بدأ البنك المركزي تطبيقها تم تنفيذها في دول عديدة وحققت نجاحا فيما يتعلق بالمضاربات. ولأن الأمر كذلك.. أرى أننا أمام وضع اقتصادي مستقر بكل المقاييس، إلا أننا نتطلع إلى ما هو أكثر استقرارا، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال استقرار أمني وسياسي، وبذلك تصبح الكرة الآن في ملعب المواطن بصفة عامة، والقوى السياسية بصفة خاصة، قبل أن تكون في ملعب الدولة الرسمية، إلا أن الدولة الرسمية سوف تتحمل في النهاية نتائج هذا الانفلات الحاصل، وبالتالي فلن يكون مقبولا، بأي حال، تخليها عن الدور المنوط بها حسما وحزما، ومن خلال جدول زمني تستعيد خلاله هيبتها، ولذلك أرى أن احتفالات الخامس والعشرين من يناير يجب أن تصب في هذا الاتجاه، وليس غيره، وهو بدء مرحلة جديدة من العمل الوطني البناء، وبدء مرحلة جديدة من النهوض والإنتاج على كل المستويات، ومن العبث أن تسمح الدولة بغير ذلك، ومن الهراء أن تقبل حديثا غير ذلك، بل من الخطأ أن يوافق المواطن على أي حديث سوى حديث العمل والإنتاج، ولنرفض جميعا أي حديث يعيد الساعة إلى الوراء، أو يعود بنا إلى مزيد من الجدل والمشاحنات، التي قد لا تحمد عواقبها مع تحفز واضح من بعض القوى. وفي هذا الصدد.. أدعو القوى السياسية، على اختلاف توجهاتها، كما أدعو رجل الشارع الطبيعي إلى عقد مقارنة بين حديث الأزمة الاقتصادية في مصر، وحديث الأزمة الاقتصادية في الولاياتالمتحدة، التي يطلقون عليها هناك "الهاوية المالية"، وهي الأولى من نوعها منذ عام 1929، ولنرصد عدة أسئلة نعقد من خلالها المقارنة، وهي: ماذا فعل الإعلام الأمريكي في التعامل مع هذه الأزمة؟، وماذا فعلت المعارضة ممثلة في الجمهوريين؟، وماذا فعل حلفاء أمريكا؟، وطرح هذه الأسئلة أيضا على الحالة المصرية، حتى يمكن أن نكتشف الفارق المؤلم، حيث أقر مجلس الشيوخ قبل يومين مطالب الديمقراطيين ممثلة في خفض النفقات وزيادة الضرائب، وخضع الجمهوريون هناك، بالطبع، بالتزامن مع طرح إعلامي واع، ودعم من الحلفاء، سواء في أوروبا أو حتى في آسيا، بينما رأتها المعارضة لدينا فرصة للتبشير بالانهيار والخراب، بعد أن فشلت في الانقلاب على الشرعية قبل الاستفتاء بمباركة إعلامية، للأسف، في المحاولتين، وهي حالة مصرية خاصة ونادرة، ربما لم تألفها مصر من قبل. على أي حال.. كان يجب على الجهات الرقابية أن ترصد مرسلي رسائل الS.M.S سالفة الذكر، كما يجب أن تتوقف السلطة الرسمية كثيرا أمام تصريحات إشعال الفتنة، وإطلاق الشائعات، وإثارة الهلع بين المواطنين، في الوقت الذي تقع فيه على جلسات الحوار الوطني مسئولية إيجاد صيغة فاعلة للتعامل مع الأزمات، وحلها بطرق حضارية، على اعتبار أننا شعب ذو تاريخ عريق، وما بدا من بعض الممارسات لا يمت بأي صلة إلى ذلك التاريخ، الذي سوف يسجلها على أنها أمراض عارضة، ومهمة الأجيال الحالية هي ألا تجعلها مزمنة، تتوطن في الأجيال القادمة، وليكن 25 يناير المقبل هو البداية لتصحيح المفاهيم الخاطئة، وليكن شهداء الثورة هم الوقود المحرك لقدرات المصريين نحو العمل والإنتاج، ولتكن النخبة المصرية هي القدوة والنموذج الذي تقتدي به كل الأجيال، أما إذا استمرت ممارسات النخبة كما هي الآن فلن، تستحق هذا اللقب بأي حال من الأحوال، وسوف يكون لقب "المفلسون" هو الأجدر. ... وحديث القامات حينما يعتلي الإمام المنبر، فله منا كل التبجيل، وحينما يؤم المصلين، فله كل التكريم، وحينما يسير حتى في الأسواق، فله منا كل الاحترام، أما إذا جلس العالم على مقهى، فعليه أن يخلع العمامة، وإذا ذهب لمشاهدة أمسية فنية، فبالتأكيد سيخلع الجبة والقفطان، إلا أنني أعتقد أنه حينما يعمل بالسياسة، فهو قابل للصواب والخطأ، كباقي السياسيين وباقي البشر، وبالتالي فعليه أن يقبل الانتقاد، فإذا ذهب لمؤتمر سياسي جماهيري، فقد يتطاير حوله الكثير من الحجارة، وفي الحالة المصرية، تصل إلى المولوتوف والخرطوش. إذن.. نحن أمام بشر قبل أن يكونوا علماء، وليسوا معصومين، فالإله واحد، وهو وحده المنزه، والأنبياء نعلمهم جميعا، وهم المعصومون، وما دون ذلك ليسوا آلهة، ولا معصومين، إلا أننا نقر قدر العلماء، ولا أحد يختلف على ذلك، ولهم منا كل التقدير، ولهم علينا كل التبجيل، ولا يمكن بأي حال أن ننتقص من أقدارهم، فما بالنا إذا كانوا من كبار السن؟.. هم إذن في مقام الآباء والأجداد، ولهم علينا الكثير والكثير، وإذا صدر منا ما يسبب لهم ألما، فلهم كل الاعتذار، إلا أنهم وأننا نظل بشرا، تحتمل سلوكياتهم وسلوكياتنا الصواب والخطأ، فما بالنا إذا اشتغلنا بالسياسة، في هذا الظرف الذي اختلطت فيه الأوراق؟!.. هي إذن كلمة واجبة، وربما في هذه الكلمة ما يعد ردا على المزايدين، حتى يدركوا أن الإله واحد، لا شريك له. نقلا عن جريدة الأهرام