لا يعود العزوف العام عن المشاركة في الانتخابات البلدية في الضفة الغربيةالمحتلة إلى مقاطعة حركة "حماس" فقط، ولكنه يعود أيضاً إلى وجود شعور فلسطيني عام بالإحباط، تعاظَمَ في الوعي الفلسطيني على مر سنوات الاحتلال الطويل والانقسام المستمر. وكثيرون هم الذين يتذكرون نتائج الانتخابات السابقة التي لم تحترم بعض الجهات، وكيف أُقصيت مجالس محلية منتخبة بالقوة من مواقعها، مع كل ما قيل أو ثبت عن اعتقال الاحتلال الإسرائيلي وأجهزة السلطة الوطنية الفلسطينية بعض أعضائها المنتخبين. هذا إلى جانب وجود أزمة مالية خانقة في ظل تزايد البطالة والفقر، مع إفشال إسرائيل لأي محادثات "تسوية" واستمرار سرقة الأرض الفلسطينية والاستعمار (الاستيطان) وجدار الفصل العنصري والقتل والتدمير الإسرائيليين، في ظل وجود سلطة لا تملك أي سلطة. ورغم إعلان حركة "فتح" تحقيق فوز كبير في الانتخابات الأخيرة، فإن الدور الأبرز فيها كان للمستقلين، مع ترسيخ لدور العائلية والعشائرية، خصوصاً في الأرياف، حيث أظهرت النتائج أن النسبة الأعلى للمشاركين في الانتخابات تركزت في المناطق الريفية التي تسيطر فيها المفاهيم والعلاقات العشائرية. وفي هذا السياق، اعتبر "عارف جفال"، مدير المرصد العربي للرقابة على الانتخابات أن "نتيجة هذه الانتخابات أظهرت توجهاً لدى الناس للابتعاد عن سيطرة الأحزاب، لاسيما أن هناك قوائم انتخابية مكونة من مستقلين تمكنت من الفوز، كما جرى في طولكرم". وأضاف جفال: "باعتقادي أن المنتصر الأول في هذه الانتخابات تمثل بالمرشحين المستقلين والقوائم التي خاضت الانتخابات مستندة إلى البعد العائلي". كما اعتبر "عمر رحال" الذي يدير مركزاً للديمقراطية، أن "ارتفاع نسبة المشاركة في الريف سببه وجود العائلات وترابطها بشكل أقوى من المدن التي يقوم التحالف فيها على المصالح وليس على قرابة الدم، كما يحدث في القرى". وأشار رحال إلى التحالفات التي جرت بين حركة "فتح" وبعض الفصائل، موضحاً أن هذه التحالفات هي الأخرى "قامت على أساس البعد العائلي، ومثلت مزيجاً بين العائلة والحزب". كما كان اللافت غياب الشعارات القديمة من قبيل المقاومة وتحرير الأرض، إذ ركز الناخبون على احتياجاتهم الآنية، أي الإدارة اليومية للمواطنين، بمعنى أن البرامج الانتخابية المطروحة ذكّرتنا ببرامج روابط القرى سيئة السمعة والصيت. إن إجراء انتخابات بلدية في الضفة الفلسطينية فقط هو -بمعنى معين- إقرار ضمني بأنها كيان قائم بذاته وكأنه لا علاقة له بقطاع غزة. وإجراء انتخابات، سواء أكانت بلدية أم تشريعية أم حتى رئاسية جديدة، في ظل الانقسام (رغم المبررات الميدانية والحياتية) سيرسخ بشكل فعلي حالة الانقسام القائم بين جناحي الوطن. وإن كانت حركة "حماس" امتنعت وخسرت المشاركة على الأقل، بحسب بعض المحللين، إلا أن حركة "فتح" التي خاضت الانتخابات كانت الخاسر الأكبر، ذلك أنها خسرت رئاسة بلديات كبرى، على رأسها، رام الله (العاصمة المؤقتة والإدارية والمركزية للسلطة الوطنية الفلسطينية)، ونابلس (الهرم الاقتصادي لفلسطين). ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح الوطنية عبد الستار قاسم أن النتائج تعدّ "فشلاً" لحركة "فتح" التي لم تلقَ قياداتها قبولاً عند الشعب الفلسطيني، وفق قوله. وقال قاسم في تصريحات صحفية، "إن أهم النتائج التي أفرزتها الانتخابات المحلية هي المشاركة الضعيفة من قبل المواطنين الفلسطينيين في العملية الانتخابية، وهو مؤشر على عدم اكتراثهم، وعدم ثقتهم بالسياسيين والإداريين الفلسطينيين الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية". وخلال لقاء نظمه "المركز الوطني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية -مسارات"، في البيرة، تحت عنوان "الخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب... ما العمل؟"، طالب المشاركون في اللقاء بأن تكون هذه الاستراتيجية شاملة ومنسقةَ الأهداف والأدوات، وتوظف كل عناصر القوة المتاحة والكامنة لدى الشعب الفلسطيني وتزجها في مقاومة الاحتلال بمختلف الأشكال المشروعة وفق القانون الدولي، مع التركيز على المقاومة السلمية الشعبية، والعمل على تعبئة وتمكين الشعب في كافة أماكن تواجده. وقد حذّرتْ الشخصيات المشاركة في اللقاء من خطورة إحلال المجالس البلدية بعد الانتخابات محل السلطة، تحت شعار اعتبارها الأطر والهياكل الوحيدة المنتخبة في ظل تآكل شرعية مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير في غياب الانتخابات، وإمكانية العمل مع الهيئات المحلية وتوجيه التمويل الخارجي نحوها على هذا الأساس، لاسيما أن إسرائيل تحاول منذ فترة ربط المواطن الفلسطيني ب"الإدارة المدنية" الإسرائيلية، عبر إصدار التصاريح، وزيادة عدد العمال في إسرائيل خلال الآونة الأخيرة، بما يؤدي إلى إضعاف السلطة، وإضعاف ثقة المواطن الفلسطيني فيها بشكل كامل. ومن هنا جاء الحديث عن روابط القرى، وكلنا يذكر أنه في عام 1983 سعى الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل الممكنة لإيجاد قيادة بديلة عن القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني ممثلةً في منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تمت الاستعانة بمجموعة من المتعاونين مع الاحتلال لإنشاء ما سمي في وقته "روابط القرى"، غير أن الشعب الفلسطيني أفشل الفكرة رغم أن "روابط القرى" تشكلت على الأرض، واهتمت بتقديم خدمات للمواطنين. من هنا تساءل مراقبون: ما الفائدة من انتخابات مجالها خدمي بالدرجة الأولى، في حين أن الأرض كلها محتلة، والبلديات نفسها مقيدة ولا تستطيع التحرك دون ميزانيات حكومية أو تبرعات دول مانحة؟! إذن، استنتج هؤلاء أننا ربما نسير في اتجاه روابط القرى، لكن بخلق ما أسماه البعض "روابط المدن": تقديم خدمات للمواطنين تحت رعاية الاحتلال دون مشاكل، وهذا ما تريده الدولة الصهيونية. هذا أولاً. وثانياً، اتسمت الانتخابات، بحسب عدد من المراقبين والمتابعين ومؤسسات حقوق الإنسان، بتجاوزات قانونية مست أحياناً جوهر العملية الانتخابية، وهو أمر معاكس للانتخابات الفلسطينية، المحلية والنيابية، السابقة التي أبهرت العالم أجمع وأثنى على نزاهتها كل من شهدها وراقبها. يضاف إلى ذلك غياب التفاعل الجماهيري معها، لاسيما في ظل مقاطعة حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" لها، ترشيحاً وتصويتاً، حيث بلغت نسبة المقترعين 54،8 في المئة ممن يحق لهم الانتخاب، وفق ما أعلنه الدكتور حنّا ناصر رئيس لجنة الانتخابات المركزية في الضفة. لقد زادت الانتخابات البلدية من ضبابية المشهد السياسي الفلسطيني بحكم انكشاف الشروخ المتنوعة داخل حركة "فتح"، علاوة على الفشل في التوصل إلى مصالحة بين "فتح" و"حماس" وحالة الجمود التي تهيمن على جهود مساعي التسوية مع إسرائيل. فما يحدث في الساحة الفلسطينية ليس فقط خلافات وإشكالات بين سلطتين مختلفتين أيديولوجياً وسياسياً وتنظيمياً فحسب، بل هي أزمة صعبة ومعقدة تخص كل فلسطيني يغار على قضيته بعد أن بات مصيره وحقوقه الوطنية الثابتة في خطر شديد. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية