عمال تظاهروا للمطالبة بزيادة الأجور فأحرقوا المصنع الذي يعملون به.. تحول حقهم في التعبير عن مطالبهم إلى جريمة سوف يسجنون بسببها.. متظاهرون بميدان العباسية لهم مطالب سياسية.. يتحولون إلى قتلى وجرحى وأعمال عنف وتخريب وباستخدام الأسلحة النارية. واعتداء على مقر وزارة الدفاع وتهديد وترويع سكان المنطقة. وتنتهي بإعلان حظر تجول، وهو إجراء حاسم لحفظ الأمن والحفاظ على أرواح الناس، ولكنه يحمل إشارات سلبية قاسية للعالم الخارجي تهدد السياحة ومناخ الاستثمار. هذه الصورة من الوارد تكرارها ألف مرة في الظروف الراهنة وفيما بعد انتخابات الرئاسة.. وأصبح السؤال المطروح.. كيف نحمي المتظاهرين من أنفسهم بالحفاظ على حقهم في التظاهر والاعتصام والاضراب دون خروج عن الهدف؟. وكيف نحميهم ممن يركبون موجة المظاهرة ويندسون - مع الاعتذار لاستخدام هذه الكلمة سيئة السمعة - لتحقيق مآرب لهم أو إشاعة الفوضى والتخريب بعيدا عن الحقوق الشرعية للمتظاهرين؟. كيف نضمن ألا تكون المظاهرات حقا يراد به باطل.. وألا تتحول من حرية للتعبير إلى ابتزاز.. ومن وسيلة للاحتجاج إلى طريق للتدمير والقتل البطىء للوطن.. ومن حق أساسي للمواطنين إلى وضع يهدد أمنهم؟.. وأولا وأخيرا.. أين حق المجتمع والوطن وعامة الناس..؟! لا سبيل للإجابة على كل هذه التساؤلات إلا بعنوان واحد "قانون تنظيم الاعتصام والتظاهر" من المفترض ان هدف أي مجموعة من المتظاهرين إعلان مطالبهم وتوصيلها إلى أغلب شرائح وفئات المجتمع والناس، بهدف الضغط على من يمتلك القرار حسب فئة ومطالب المتظاهرين في بحث المطالب بجدية، والوصول إلى حل يرضي المتظاهرين ويحقق أهدافهم.. ومن هنا كان التأكيد في جميع المواثيق الدولية على حق المواطنين في التظاهر.. وتركت لكل دولة سن القوانين التي تنظم ذلك، في إطار القاعدة الأساسية للحريات.. "ان حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين".. ويبدو أن السادة المتظاهرين في مصر، والسادة أعضاء البرلمان لا يعترفون بهذه القاعدة.. ومن رأيهم أننا في حالة ثورة.. وللثورة استثناء فوق كل الاعتبارات.. وهو قول مغلوط يهدر أهداف الثورة وينحرف بمسارها إلى أعمال مرفوضة من الشعب وتشوه وجه الثورة البيضاء.. وتبعدنا عن أهدافها الحقيقية.. وتضر بمصالح الناس والوطن وتهدد أمنه واستقراره. نؤكد مراراً أن الاعتصام والتظاهر حق لكل فئات المجتمع.. وهذا ليس اختراعا مصريا أو تفضلا على أصحاب الاحتجاج ولكنه كما ذكرت مكفول بالمواثيق الدولية ويكتسب قدسية من نصوص الدستور.. ولكن الوضع بمصر الآن فاض به الكيل إما بحسن نية من المتظاهرين لعدم معرفتهم بأسلوب التظاهر الحضاري وسلمية التعبير عن رأيهم ومطالبهم.. أو بتعمد من يركبون موجة المظاهرات من المجهولين المسلحين بالأسلحة وقنابل المولوتوف كما ظهر في الأحداث التي مرت بها مصر على مدى الشهور الماضية. وهدفهم أولا وأخيرا الإضرار بالبلد والفتنة بين فئاتها والانحراف بالمجتمع إلى غياهب من الجدل البيزنطي.. وما أسعدهم عندما تتحول المظاهرة إلى صراع بين السلطات ووقوع قتلى وجرحى وحالة من النزاع الملهب لمشاعر الناس والدخول في دوامة من عدم الأمان والهدوء والاستقرار. مظاهر عديدة وخاطئة يستخدمها المتظاهرون.. تراخت سلطات الدولة في مواجهتها بالقانون.. فكانت الكارثة متلاحقة الحلقات.. من قطع الطرق واحتجاز السائحين، وإشعال الحرائق.. وتدمير مواقع الإنتاج.. وإذا كانت هيبة الدولة قد ضاعت ونتباكى عليها اليوم.. فإن المسئول عن ضياعها ليس المتظاهرون بقدر ما هم المسئولون الذين أهانوا القانون وتراخوا في المواجهة لحماية مصالح الدولة والناس، بحجج وذرائع واهية على غرار: الناس مجروحة ولابد ان نتحملهم أو لا نريد اشعال الموقف إذا اضطررنا لفض اعتصام لتسيير طريق أو تشغيل مصنع.. وهي حجة تدل على ضعف في فرض القانون وسوء إدارة أزمة أكثر مما تعبر عن الرحمة والإيمان بمطالب فئوية مشروعة. وإذا كانت الحكومة قد تهاونت.. فلا يصح أن يرتكب البرلمان نفس الخطأ.. والفيصل بين الجميع هو القانون الذي يجب ان يكون مجلس الشعب الأحرص على احترامه وتنفيذه.. ولابد ان ينأى أعضاء البرلمان بأنفسهم عن الاتهام للبعض منهم انهم يريدون ترك الدنيا سداح مداح، لاستغلال المظاهرات وأعمال العنف في أي وقت وأي مكان حسب الحاجة التي تلبي مصالح شخصية أو حزبية أو تيارات وقوى سياسية بعينها.. كما نرى ونسمع الآن مرشحا للرئاسة يهدد بإشعال مصر إذا لم ينجح.. ويرى ان ذلك تزوير في الانتخابات. أو كما قال أحد أنصار أبواسماعيل في مظاهرات العباسية.. لقد قررنا نقل اعتصامنا من التحرير إلى أمام وزارة الدفاع، لأن ميدان التحرير لم يعد جاذبا للاهتمام من الفضائيات ووسائل الإعلام مثلما كان أيام الثورة.. يا أخانا هناك فرق بين ثورة شعب وبين ما تقومون به اليوم من عصيان وتمرد على القانون وسيادة الدولة. كما أنأي بأعضاء البرلمان ان يتهمهم التاريخ بأنهم تركوا هموم الوطن وانشغلوا سنوات الثورة بإصدار التشريعات والقوانين التي ترسخ لفكرهم أو لتصفية الحسابات وافتعال الأزمات لأهداف سياسية تؤمن قوتهم وترسخ وجودهم.. فأيهم يستحق أن تكون له الأولوية في جهد ووقت المجلس الآن.. إصدار قانون التظاهر والاعتصام لحماية مصالح الناس والبلد أم الانشغال بقوانين حد الحرابة والخلع وختان الاناث والبناء على الأراضي الزراعية وهيكلة الأزهر، والتعويض المادي لمن أمضوا فترة اعتقال أو حبس وصدر لهم العفو أو البراءة؟.. نحن مع كل هذا.. ولكننا أولا وأخيرا مع حماية مصر وأمنها واستقرارها. يجب ان يبادر البرلمان ويسرع بالانتهاء من إصدار القانون.. الذي يضع مصلحة البلد فوق كل اعتبار.. وهذا ليس من قبيل المزايدة على السادة الأعضاء أو الشعارات الرنانة.. ولكنه الحال في كل بلاد الدنيا ذات الديمقراطيات العريقة والحريات الراسخة.. وإذا اعتبر البعض دولا بمثابة قبلتهم للحرية والديمقراطية مثل أمريكا وفرنسا وسويسرا وبريطانيا.. فلنا فيهم القدوة الحسنة.. لا يوجد في أي دولة منها حق مطلق للتظاهر.. لابد أولا من الحصول على تصريح محدد به مكان وزمان المظاهرة وعدد المشاركين فيها ونقطتا البداية والنهاية لخط سير المظاهرة.. والوقت الذي تستغرقه والجهة المنظمة لها.. وبعض هذه الدول تشترط ألا تقام المظاهرة في المناطق المهمة أو الهادئة.. ولا يسمح بها في ساعات مبكرة من النهار أو متأخرة من الليل.. وألا تعوق حركة مرور الناس على الرصيف..! وأهم شروطها ألا تمس المظاهرة القانون والنظام العام وألا تضر بأمن وسلامة المواطنين أو تعطل مصالحهم.. بل ان أمريكا استحدثت قوانين ضد الحريات في إطار حرصها على أمن الوطن واستقراره وعدم اثارة الفتن الدينية والعرقية.. ورفعوا شعاراً ارتضوه جميعا "مصلحة البلاد فوق كل اعتبار"، وتصل الغرامات في سويسرا للمتظاهر الواحد إذا تم تنظيم مظاهرة دون تصريح إلى أكثر مما يوازي أربعة ملايين جنيه "700 ألف فرنك سويسري". وفرنسا تسمح بوجود رجال أمن بملابس مدنية مع المتظاهرين لحمايتهم وكشف أي أشخاص يحاولون إثارة الشغب أو القيام بعنف وتخريب. النواب الوطنيون بالبرلمان تقدموا ب 13 مشروعا بقانون لتنظيم التظاهر والاعتصام.. هدفها ترسيخ حق المواطنين في التظاهر وحريتهم في التعبير عن مطالبهم وفي نفس الوقت حماية البلد والحفاظ على الوطن من أي عبث مجهول أو سوء استغلال للمظاهرة. وهي مشروعات قوانين يجب ان تأخذ الأولوية من الجدية والمناقشة تعبيرا عن نبض الشارع الذي يتفاعل معه البرلمان.. وتجسيدا حقيقيا لانشغال أعضائه بهموم الوطن والمواطنين. لا تتركوا الحال هكذا.. أصدروا تشريعا عاجلاً هو في حد ذاته تقنين لمبادئ الثورة والحرية والعدالة وسيادة القانون.. أما غير ذلك فهو جريمة في حق الثورة والثوار. كم من الجرائم ترتكب باسم الثورة!! نقلا عن جريدة أخبار اليوم