غزا الإيطاليون ليبيا عام 1911، وكانت سواحلها لاتزال تحت سيطرة الدولة العثمانية، واستطاعوا أن يصطنعوا لأنفُسهم موطئ قدمٍ في المدن الساحلية خاصةٍ طرابلس. وما وجدوا مقاومةً في البداية إلاّ من السنوسيين الذين كانوا يتمركزون في برقة، خاصةٍ واحتا الكفرة والجغبوب، ويصل امتداد قُراهم الزراعية إلى حدود مدينة بنغازي والسلُّوم في الصحراء الغربية المصرية الليبية. وسُرعان ما قام تعاونٌ بين كتائب الخيالة السنوسيين والحامية العثمانية التي كان من ضباطها مصطفى كمال (أتاتورك). ولأنّ العثمانيين كانوا مشغولين وقتها بالدفاع عن جناحهم الأوروبي الذي يُعرِّضُ التخلّي عنه العاصمة إسطنبول للخَطَر، فسُرعان ما هادنوا الإيطاليين، وانسحبت أكثر قواتهم عام 1912، وأَبْقَوا على بعض المدرِّبين، وعلى اتصالاتٍ بحريةٍ وبريةٍ عبر طُرُقٍ ملْتوية مع كتائب الجهاد الليبي السنوسية وغيرها. أمّا السنوسية فهي طريقةٌ صوفيةٌ أسَّسها الشيخ الجزائري الأصل محمد بن علي السنوسي بواحة الجغبوب بصحراء برقة، وتوسعت باتجاه مصر في الصحراء الغربية والصعيد، وباتجاه تشاد والنيجر، وبالطبع باتجاه صحراء فزان المُجاورة. وفي تلك الأصقاع ربط السنوسيون خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر طرق القوافل التجارية بقرىً زراعية مزدهرة، واشتبكوا مع الفرنسيين الذين كانوا يتغلغلون في الدواخل الإفريقية. وبعد اتفاقية فاشودة عام 1904 بين الفرنسيين والبريطانيين على تقسيم إفريقيا، اصطدموا بالبريطانيين أيضاً في إفريقيا وعلى الحدود مع مصر. واعتمد السنوسيون في حركتهم الشاسعة على إقامة تحالُفاتٍ بين القبائل، وألّفوا بين العرب والبربر، وهادنوا الدولة العثمانية، ونشروا زواياهم في تلك الأنحاء وما بين مصر والحجاز والجهات الإفريقية. وكان الإيطاليون يحسبون لهم حساباً، ويعرفون صراعاتهم مع الفرنسيين والبريطانيين؛ لذلك ما اقتربوا في البداية إلى مناطقهم الصحراوية رجاء إبقائهم على الحياد. لكنّ السنوسيين الذين استقبلوا أفواج النازحين إليهم من المدن الساحلية وأريافها، سارعوا إلى شنّ حركةٍ جهاديةٍ كبدَّتْهم خسائر فادحة في موجات الغزو الأُولى، وأعانهم في ذلك العثمانيون والمتطوعون العرب الذين قدموا من مصر أو عبرها، ونعرفُ منهم عبد الرحمن عزام (الذي صار عام 1945 أميناً للجامعة العربية)، وشكيب أرسلان الذي قدم من جبل لبنان، وآخرين كثيرين من سوريا وفلسطين والعراق وبلدان المغرب العربي. وفي أواخر عام 1912 نشرت مجلة "المنار" نداء "شيخ السنوسية" السيد أحمد الشريف السنوسي للجهاد، فسارعت ألوفٌ من الشبان المتحمِّسين للقتال تحت لواء السنوسيين. وكان أحمد الشريف وقتَها شيخاً للطريقة وقائداً للجهاد بالوكالة، لأنّ حفيدَ مؤسِّس الطريقة أدريس (الذي صار ملكاً فيما بعد) كان صغيراً، وقد أُرسل مع اشتداد المعارك إلى مصر مع نساءٍ وأطفالٍ من الأُسرة، بموافقة البريطانيين. وبلغت المعارك ضد الإيطاليين ذروتَها عام 1914 حيث توحدت المدن والبوادي بقيادة أحمد الشريف ضد الإيطاليين. بيد أنّ الشريف ارتكب عام 1916 خطأً استراتيجياً عندما طلب منه العثمانيون الذين دخلوا الحرب إلى جانب ألمانيا، مساعدتَهم بمهاجمة البريطانيين في مصر، وكانوا يُعدُّون حملةً لاقتحامها على الإنجليز من ناحية سيناءوالسويس. وهكذا قسم أحمد الشريف قواته إلى ثلاثة أقسام: قسم أبقاه في مواجهة الطليان، وقسم اندفع إلى أعماق إفريقيا ضد الفرنسيين، وقسم هاجم البريطانيين عبر طبرق والسلُّوم! وعندما هزم البريطانيون العثمانيين على السويس عام 1916 ارتدُّوا على الشريف فشرذموا قواته، وشاركوا الإيطاليين والفرنسيين في محاصرته. وتراجع الشريف إلى أعماق الصحراء، وظهرت المعازلُ الإيطالية الإبادية للجنرال غرازياني ضد المقاتلين والمدنيين الصحراويين، والتي فني فيها نحو نصف مليون خلال خمسة عشر عاماً. وتحت وطأة حروب الإبادة، انقسمت الأُسرة السنوسية إلى قسمين: قسم آثر متابعة الجهاد حتى الاستشهاد، ومنهم عُمر المختار الذي ولاّه أحمد الشريف قيادة الجهاد عندما غادر الأرض الليبية طلباً للعون الخارجي متسللاً عبر صحراء مصر ثم بحراً إلى الأناضول لينضمَّ إلى صديقه "مصطفى كمال" الذي كان يجمع بقايا الجيش العثماني لمواجهة البريطانيين والفرنسيين واليونان الذين دخلوا الأراضي التركية واحتلُّوا اسطنبول! وقسمٌ آخر بزعامة الشاب إدريس السنوسي الذي آثر المُهادنة بنصيحةٍ من البريطانيين بعد أن تولَّى زعامة السنوسية رسمياً. وعندما أعدم الطليان عمر المختار عام 1931 تضاءلت أسطورة الجهاد الليبي، وصار النضال سياسياً، وعادت الولايات العثمانية الثلاث إلى الظهور: طرابلس، وبرقة، وفزّان. أمّا أحمد الشريف السنوسي فقد وضعه أتاتورك في الإقامة الجبرية عندما لاحظ أنه يُثير الناسَ عليه إثر إلغائه الخلافة عام 1924، فسَاعده أصدقاؤه الأتراك على الهرب، حيث انتهى به المطاف بعد سنواتٍ من التشرد بالمدينة المنورة، حيث توفي بالزاوية السنوسية كسير الجناح عام 1935. أحمد الزبير السنوسي الذي عيَّنه شيوخُ برقة رئيساً لمجلس إدارة الفيدرالية التي أعلنوا عنها من بنغازي هو حفيد أحمد الشريف. والأُسرة السنوسية ما اجتمعت على خطٍّ بعد الافتراق بين أحمد الشريف وابن أخيه إدريس في عشرينيات القرن الماضي. وقد وُلد أحمد الزبير بمصر عام 1933، وأُرسل عام 1954 للدراسة العسكرية بالعراق، وعمل ضابطاً بسوريا في الخمسينيات، وعاد عام 1963 إلى العراق، ثم غادر إلى ليبيا فلم يُستقبل بالترحاب. ورغم معارضته لابن ابن عمه إدريس، فإنه لم يسلِّم لانقلاب القذافي وحاول الثورة عليه عام 1970 فأُدخل إلى السجن ولم يُقتل لأنَّ قبائل القذاذفة كانت سنوسيةً، ولأنه حفيد أحمد الشريف. وظلَّ الرجل في السجن حتى عام 2001 فأُخرج لاشتداد الأمراض عليه، ولأنّ القذافي فكر بمهادنة السنوسيين أخيراً ليستعين بصوفيتهم وقبائلهم بالشرق الليبي على الإسلاميين الجهاديين. وقد انطلقت الثورةُ في ليبيا من بنغازي، وهي مدينةٌ سنوسيةٌ، لذلك عُيّن أحمد الزبير السنوسي عضواً في المجلس الوطني الانتقالي مسؤولاً في اللجنة الأمنية بسبب ماضيه العسكري بالعراق وسوريا. لكنْ، وبعد الأسابيع الأولى للثورة، والتدخل العسكري الغربي، وانتقال الصراع إلى مصراته والجبل الغربي وطرابلس، ودخول آلاف العناصر من الشبان والإسلاميين الجدد في القتال، ومقتل الجنرال العُبيدي، فقد البنغازيون السيطرة عليها. وخشوا أن يُعادوا إلى النسيان كما حدث أيام القذافي. لذلك رفض أحمد الزبير ترك بنغازي إلى طرابلس مع مصطفى عبد الجليل. ووسط غفلة المجلس الوطني، وانهماكه في تجريد المسلَّحين من سلاحهم، وخشيته من تمرد القبائل الموالية للقذافي، حدثت أشياء غريبة. فقد لجأت بعض بطون قبائل سرت وبني وليد القذافية الهوى إلى معاقل السنوسيين بالصحراء. وتجددت الأحاديث عن مظالم الشرق الليبي منذ أيام الطليان، وليس منذ قيام انقلاب القذافي فقط. وزاد الطين بلَّةً الإعلان عن تشكيل المجلس التأسيسي الذي سوف يُنتخبُ في يونيو القادم، وليس لبرقة فيه غير ستين نائباً من مائتين وخمسين. وعندما كان شيوخ السنوسية يفكّرون ويقدّرون ويمضغون غيظهم، أعلن "الإخوان المسلمون" عن حزبهم لعموم ليبيا. فسيطرت على الشيوخ الفكرة القائلة إنّ "الإخوان" الذين يميل إليهم عبد الجليل سوف يسيطرون (وهم سلفيو العقيدة، معادون للصوفية) على السلطة في سائر الأنحاء بعد الانتخابات. ولأنّ أحداً في ليبيا الآن لا يقبل بفكرة الانفصال، فقد تجلَّى غيظهم بالإعلان عن برقة إقليماً فيدرالياً اتحادياً كما كانت بين عامي 1951 و1963. يعلم شيوخ برقة أنّ الأمر ليس بيدهم حتى في بنغازي. فعندما كان أربعة آلافٍ منهم يجتمعون خارج بنغازي وطبرق لإعلان الإقليم، كان عشرات آلاف الشبان يتظاهرون في بنغازي وطبرق ضد الفيدرالية. صحيحٌ أنّ "الإخوان" يريدون الاستيلاء على كلّ شيئ -كما يقول السنوسيون- لكنْ من المستحيل في نظر شبان ليبيا إعادة الأمور خمسين عاماً إلى الوراء. فعندما قام القذافي بانقلابه، كانت في ليبيا ملكيةٌ دستوريةٌ تحاولُ بناء دولةٍ عصريةٍ موحَّدة. وهذا المثال مشتركٌ بين شيوخ السنوسية والأجيال الشابة. لذلك فإنّ النضال ممكنٌ من أجل ليبيا حديثة واتحادية، إنما بطريقةٍ أُخرى غير الطريقة التي جرت بها سابقاً. لقد جاهد الليبيون جميعاً للخلاص من الاستعمار، وفقدوا نحو نصف مليون قتيل. وبعد الجهاد الأول سارعوا إلى التوحد أكثر. ثم عانوا من القذافي أربعة عقود، وفقدوا مائة ألف قتيل للخلاص منه. ولا خلاص من الشمولية والاستتباع إلاّ بالدولة الديمقراطية؛ ويظلُّ الضروري دائماً فهم هموم وآلام وتوجسات شيوخ برقة وفزّان وقبائلهما وشبابهما؛ بغضّ النظر عن النظام الذي يحاول الليبيون إقامته! نقلا عن صحيفة الاتحاد